الثلاثاء: 19/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

أم ضياء الغزاوية كاهنة النبوءة والمطر

نشر بتاريخ: 21/03/2021 ( آخر تحديث: 21/03/2021 الساعة: 14:10 )

الكاتب: عيسى قراقع

تستعد نجاة الاغا والدة الاسير ضياء الذي يقضي أكثر من 27 عاما في السجون الاسرائيلية للقاء فاتوبنسودا المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بعد ان قررت بشكل رسمي فتح تحقيق في الجرائم الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية المحتلة وفي الجرائم التي ارتكبت بحق أهالينا في قطاع غزة خلال حرب عام 2014.

أم ضياء والدة أقدم الأسرى الغزيين والذي رفضت اسرائيل الأفراج عنه في الدفعة الرابعة و تنصلت من التزاماتها بأطلاق سراح كافة المعتقلين ما قبل اتفاقيات اوسلو عام 1993، لا زالت تحمل ذلك المعول الذي نفذ به ابنها عمليته الفدائية في احدى المستوطنات الاسرائيلية قبل اعتقاله، هذا المعول كما تقول ام ضياء ستهدم به جدران السجون وابوابه الحديدية وقيوده وأقفاله، وبهذا المعول ستنبش أرض غزة وساحلها وبحرها وتكشف عن الاف الجثث والجماجم المدفونة في أرض القطاع لتعد لائحة اتهام طويلة حول جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ارتكبتها سلطات الاحتلال بحق السكان المدنيين في غزة.

أم ضياء الغزاوية التي تجاوز عمرها السبعين عاما قضت حياتها بين السجون والمعسكرات تبحث عن أولادها: محمد الذي افرج عنه بعد 13 عاما قضاها في السجون، وضياء الذي لا زال يقبع في السجن مع الالاف من الأسرى والأسيرات، تحمل أم ضياء في صدرها كل أحزان المعذبين والمأسورين، هي كاهنة الصبر، كاهنة النبوءة والمطر، رآها كل الناس في الشوارع والأزقة والساحات ومقرات الصليب الاحمر وأمام الهيئات الدولية، شاركت في كل المؤتمرات العالمية وهي تقرأ وصية زوجها الذي توفي قبل أن يرى أولاده وترفع صور أولادها وهي تصرخ صرخة أمهات فلسطين اللواتي يسابقن القضاء والقدر من أجل لحظة حياة وعدالة قبل مجيء الاجل.

أم ضياء الغزاوية تضع أمام المدعية العامة للمحكمة الجنائية كل زفراتها وشهقاتها وغضبها وهي تقول: لقد وصلتم أيها القضاة متأخرين، لم تروا الموت المفتوح في قطاع غزة، لم تروا البشر وهم يحترقون ويذوبون مع الفسفور الكيماوي والقنابل الانشطارية الكربونية وينفجرون في الموت وما بعد الموت، لم تروا هدم المنازل فوق ساكنيها وقتل الاطفال والنساء، عائلات بأكملها أبيدت ومحيت اسماؤها من الوجود، الاف الاطنان من القنابل ألقيت فوق رؤوس السكان المدنيين، قصفوا غزة بحرا وجوا وبرا وحولوها الى نيران في جهنم، هنا أشلاء أولاد صغار، هنا الدم لا زال ساخنا، هنا دمى وقمصان وقناني حليب ودفاتر وأقلام وعكازات مدفونة تحت الركام، هنا جرحى ومعاقين وعيون مفقوءةأطفأتها الصواريخ والطائرات.

أم ضياء الغزاوية التي بقيت على قيد الحياة بعد الحرب العالمية الكبرى التي شنتها اسرائيل على قطاع غزة المحاصر عام 2014 تفتح امام المدعية العامة ثلاجات الموتى المكدسة بالجثث، أجسام مزقتها القنابل المحرمة دوليا، أجسام محروقة ومهشمة وناقصة، لا أقدام ولا رؤوس ولا أيدي، مقل محفورة بالبارود والشظايا، شهداء جاءوا من كل حارة وبيت ومخيم ومدينة وملجأ ومدرسة ورياض أطفال، جاءوا من المستشفيات المقصوفة وصيادون جاءوا من البحر جثثا بلا مؤونة، الطيارون الاسرائيليون استهدفوا كل من يتحرك ويتنفس في غزة حتى المقابر، تحولت غزة تحت وابل قنابلهم الى مجزرة.

أم ضياء الغزاوية تروي حكاية هيروشيما الثانية في غزة، الدمار والقتل المستباح وفيضان الدم، الاعتقالات الواسعة والجماعية، الاعدامات الميدانية خارج نطاق القضاء، استخدام السكان دروعا بشرية خلال الاقتحامات، آلات الموت الزاحفة ليل نهار، مجنزرات ودبابات ووحوش مسعورة، الهواء أصفر، الرمل مشتعل، وغزة بكل ما فيها من بأس وجدارة لم تغرق في الرمل أو في البحر، بل يشتد لهيب الموج والمقاومة.

أم ضياء الغزاوية كاهنة النبوءة والمطر تحمل معول ابنها ضياء في كل زيارة للسجن، تقول للمدعية العامة لن يبقى المجرمون الاسرائيليون منفلتين من العقاب: الضباط والقادة والجنود والمسؤولون والبرلمانيون والسجانون والطيارون والقناصة وكل جنرالات الحرب في دولة اسرائيل، فلتفتح المحكمة أبوابها لمحاكمة أبشع احتلال والأكثر طغيانا في العصر الحديث، الاستيطان والمستوطنون والحاخاميون وعباقرة الابرتهايد في اسرائيل، المحاكم العسكرية وقضاتها، اطباء السجون الذين شاركوا وقتلوا المئات من الاسرى، المحققون الذين عذبوا الأسرى حتى الموت، فلتفتح المحكمة الدولية أبوابها لاسترداد أعمار المعتقلين التي فنيت بين جدران السجون، تركوا فريسة للأمراض والقمع وشراسة الاماكن الضيقة والأحكام المؤبدة، ولتفتح المحكمة أبوابها لمحاسبة من يحتجز جثامين شهدائنا في تلك المقابر السرية، يحرمهم من العودة الى عائلاتهم وقبورهم وجنازاتهم اللائقة.

أم ضياء الغزاوية أكدت أن ولاية المحكمة الجنائية ترسم حدودها أصوات الضحايا وليس المستوطنات والشوارع الالتفافية والجغرافيا المجزأة، ترسمها امرأة هي الشاهد والراوي والرواية على التوحش الاسرائيلي والعنصرية، هي فصل البداية وفصل النهاية لأعدل قضية.

أم ضياء الغزاوية تكشف للمدعية العامة للمحكمة الجنائية ما جرى من جرائم حرب في الشجاعية وجباليا ورفح والشاطئ وخانيونس ودير البلح وبيت لاهيا، تلملم أم ضياء عن السياج الفاصل لحم الأطفال المقتولين، أشلاءهم المتناثرة، ابتساماتهم المنسوفة، طيارات الورق المشتعلة في الأيادي الصغيرة وهي تهدي التحيات الى القرى الفلسطينية المهجرة والمنكوبة: أسدود والسوافير وياصور وعراق المنشية والمجدل والفالوجة، ومن غزة الى الضفة المحتلة، ومن غزة الى القدس و حيفا ويافا والناصرة، ومن غزة الى الأسرى في سجون نفحة وجلبوع وعسقلان والدامون وريمون وعوفروهداريم وشطة والمسكوبية ألف ألف تحية.