الكاتب: د. رمزي عودة
منذ فترة طويلة، لم يظهر محمد دحلان المفصول من حركة فتح على أي شاشة عربية مهمة كما حدث مؤخراً حينما إستضافته قناة العربية. كان الجميع يترقب ماذا سيقوله دحلان! ولكنهم فوجئوا بأن لا جديد في كل حديثه سوى بعض الإرتباك وفقدان الثقة أحياناً، والنسيان المتكرر لإكمال عباراتهأحياناًأخرى. من الواضح،أنه لم يتوقع صعوبة الأسئلة وصلابة المذيعة "قليلة الخبرة"، ومقدمتها التي إبتدأتها بإتهامه بأنه شخص غايةً في الجدلية والغموض، وبدا كأنه وقع في مصيدة من الصعب الخلاص منها في الثلاثين دقيقة من فترة المقابلة.
لم يطرح دحلان في مقابلته سوى الهجوم على شخص الرئيس الفلسطيني، وكأن طرده من حركة فتح قبل 10 سنوات كان لأسباب شخصية، ولم يقدم لإثبات ذلك سوى مزيد من الأكاذيب التي لم يقتنع بها أحد من المشاهدين بمن فيهم أنصاره. فتارةً يتحدث عن عدم وجود تهمة عليه في القضاء الفلسطيني سوى "الإساءة للشرطة"!، وتارةً يتهرب من الإجابة على الأسئلة المتعلقة بملفات الفساد والقتل والتآمر التي تلاحقه. وبينما ينأىبنفسه عن تحمل مسؤولية الإنقلاب في غزة، فإنه قد بالغ بصورة درامية في تصوير حالة الفقر والظلم الذي وقع على الفلسطينين في القطاع، وكأنما سيأتيإليهم على هيئة "المخلص".
وفي معرض تشويهه للحقائق، حاول دحلان مراراً وصف فترة حكم الرئيس الفلسطيني بالفشل متناسياً الإنجازات التاريخية للقيادة الفلسطينية في مختلف القضايا الوطنية ومنها؛ موضوعة الأمم المتحدة والقانون الدولي، وصمود القيادة الفلسطينية في إسقاط صفقة القرن وقضية الأسرى، وإستمرار قيام السلطة الوطنية بتقديم خدماتها للجمهور في ظل الاحتلال والحصار والضغوط. بالمحصلة،إختزل دحلان فشله في مقدمات تبتعد عن الحقيقة، بحيث باتيُحمّل تهمه الفشل على الغير كتعويض عن هذا الإختزال. وفي نفس السياق، حينما سُأل عن ماذا قدم للقضية الفلسطينية طيلة فترة العشر سنوات الماضية، لم يجد أي تبرير سوى قوله بأنه كان "مطرودا من السلطة" وكأن العمل في السلطة الوطنية هو العامل الأهم في عملية النضال!بالمقابل، لم يتحدث دحلان عن مشروعه لمقاومة الإحتلال، بل على العكس،إختزل "نضاله" المزعوم بعكوفه على تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني، وكأن القضية الفلسطينية هي قضية إنسانية وليست سياسية، وكأنما الشعب الفلسطيني أضحى "شعباً متسولاً"؛ وهي نفس العبارة التي كررها دحلان في المقابلة، وإعتبرها الكثيرون- وهم على حق- بأنها إهانة بالغة للشعب الفلسطيني ولنضاله الطويل، وخاصة أن دحلان يعيش في القصور والترف في حين أنه كان فقيراً معدماً ولاجئاً.
وفي الوقت الذي حاول دحلان أن يظهر في اللقاء بأنه قائد لديه ما يقوله عن الوضع السياسي في فلسطين، الا أنه كان متوتراً طيلة فترة اللقاء، وربما هذا الذي دفعه لإستخدام كلمة "أنا" عشرات المرات إشارة على فرديته ونرجسيته المطلقة ودفاعه عن الذات. إضافة الى ذلك، بدا دحلان متناقضاً في معظم أفكاره التي طرحها في اللقاء؛ وعلى سبيل المثال عندما تحدث بسلبية عن التنسيق الأمني، أكد في نفس اللقاء قيامه بالتنسيق الأمني أثناء وظيفته سابقاً بإعتباره واجباً وطنياً، وعندما سألته المذيعة عن موجة التطبيع،إقتصرتإجابته بشكل متناقض وغير مفهوم على قولهبأنه"ليس مع هذه الاتفاقات ولكنه لا يقول فيها". ويبدو أن هذه الاجابة الغريبة تعبر عن حالة التبعية للآخرين التي إرتهن إليها دحلان منذ طرده من اللجنة المركزية لحركة فتح.
في الواقع، لم يكن ظهور دحلان في قناة العربية أمراً عبثياً في هذا التوقيت الهام التي تسنهض كافة فصائل العمل الوطني نفسها للدخول في المعترك الانتخابي في أيار القادم. ويبدو أن دحلان الذي وجد نفسه بعيداً عن تفاهمات القاهرة بين الفصائل، أصبح أكثر إداركا بأهمية تقديم تنازلات لحركة فتح ليتم إعادته للحركة، ولهذا نجده قد كرر دعوته أكثر من مرة الى "التسامح" بين المتنافسين كعنوان للمرحلة الجديدة. وتناسى أن قرار فصله من الحركة جاء لاعتبارات أخلاقية وقيمية بالأساس مثل؛ ملفات الفساد وإساءة إستخدام السلطة والتخاذل في فترة الانقلاب والتعاون مع جهات أجنبية، الى آخره من الملفات التي يصعب على الحركة في إطارها أن تفكر باعادته الى صفوفها، حتى وإن إرتبط رجوعه بعودة تدفق الدعم الخارجي الموجه سياسياً.
لقد أراد دحلان من لقائه المتلفز أن يرسل رسالةً مبطنةً الى قيادة حركة فتح بأن يتم العفو عنه وإعادته الى صفوفها القيادية. ومن أجل تبرير طلبه هذا، قدم صفقة سياسية للحركة يمكن ملاحظة خطوطها العامة في حديثه من خلال محاولته تعظيم قوة التيار الذي يقوده دحلان بإعتباره سيحقق "مفاجئة" صاعقة في الإنتخابات وفقا لإستطلاعات الرأي التي لم يشر الى أي منها لتأكيد مصاقيته!. ثم أشار الى علاقته القوية مع حركة حماس بإعتبارها ستكون مفتاحاً لقوته السياسية في الخارطة السياسية المشكلة بعد الإنتخابات، وأخيراً، أشار في أكثر من موقف الى أهمية علاقاته الاقليمية والتي يحتاجها الفلسطينيون في الدعم السياسي والمالي. والواضح أن دحلان المعروف بصفقاته التجارية (والمشبوهة في كثيرٍ منها) في المنطقة ككل ، يسعى جاهداً في هذه الأثناء الى أن يقدم صفقة من نوع آخر، صفقة سياسية تعيده الى الخارطة السياسية الفلسطينية في الوقت الذي يستشعر فيه خطورة الإنتخابات على مستقبله السياسي، لاسيما إذا ما فشل التيار الذي يقوده في كسب أي مقاعد مهمة في المجلس التشريعي كما هو متوقع، أو اذا ما تم تشكيل قائمة مشتركة بين فتح ومختلف الفصائل بالشكل الذي يقصيه خارج "اللعبة السياسية".
يبدو أن الوقت ليس لصالح دحلان، وخاصةً مع تقدم تفاهمات القاهرة، ولهذا ظهر على الرجل ملامح إرباك واضحة، وكأنما إستشعر خطورة هذه التفاهمات على سقوطه من "عرش المعارضة" الذي كان يسوق نفسه للآخرين باعتباره البديل القوي. وقد جاءت تفاهمات القاهرة لتشكل بداية الليلة التي يسقط فيها هذا "الرجل الهارب"، والمطلوب للقضاء الفلسطيني. وكنتيجةً لذلك، لم يعد دحلان قادراًعلى لعب دور "حامل الفوضى" في الساحة الفلسطينية، ولاحقاً بعد هذا اللقاء، لم تعد مشكلة الفلسطينيين إستمرار وصفهم لهذا الرجل بالحقارة الكبرى، ولكن المشكلة باتت تتمثل بأن هذا الرجل "لم يعد قادراً على إحتقار نفسه بعد الآن". على حد تعبير نيتشة.