الكاتب: عيسى قراقع
مسكت يدي ورمت وجهها على صدري وصرخت بي: أريد أن ارتاح ، والله حرام يصير فينا هيك، والله نفسي أشوف ابني واحضنه قبل أن أموت، وكانت دموعها تضيء الهواء وتشع كبرق تائه بين السماوات والأرض، صوتها هز المكان حتى بكت الملائكة في طريقها من القلب الى الملكوت الأعلى.
هي أم الأسير نعيم الشوامرة، في الثمانينات من العمر، كانت تنتظر ولدها المحكوم بالمؤبد، تفتش عن فلذة كبدها المحشور في سجون الاحتلال، وقد جندت كل ما في هذه الأرض من كائنات وكسرت الفارق بين الليل والنهار من اجل أن يعود للحظات، وتفرح معه بحياتها الباقية من الأيام القادمات.
في عيد الأم قالت لي: والله بقوم عن صلاة الصبح وبظل أدعي ربنا أن أشوف ابني قبل أن أموت، ودعوت الله يموتني علشان أتخلص من العذاب، والله إني تعذبت منذ أكثر من 20 عاما، والله حرام، يا رب بدي ارتاح. هي كلماتها المبلولة بالدموع والحليب، شبق أم تسقي ابنها ملعقة من عسل حياتها قبل الرحيل، كانت تعطيه صدرها حين يمرض وتقول له أنا أمك وأبيك فاخرج من القيد كي أراك، اخرج كي تودعني في جنازتي فيخضر التراب وتبدأ الحياة.
كلمات الأم العجوز التي تسيل مع دموعها وصراخها تنهال الى عمق التراب وهي تزرع شجرة في حديقة الحرية للأسرى في مدينة دورا، تضع صورته على جذع الشجرة وتسقيها بدموعها، ترى فيه طفلا يانعا سيعود إليها، لا تستوعب أن يجف ابنها في ظلام السجون، لا تستوعب استمرار الحياة دون حريته وعودته إليها.
هي أم الأيتام، توفي والد نعيم وهو لازال طفلا مع خمسة أخوة صغار، كانت الأم والأب، القلقة والخائفة على أولادها، تبني لهم مستقبلهم وتحفر بأصابعها صخور الحياة حتى كبروا ، ليخطف الاحتلال ابنها نعيم فتنقلب حياتها رأسا على عقب، ويبدأ مشوار المعاناة الطويل الذي لم ينته حتى الان، وتسمعها تقول: أولادي أيتام... تركهم أبوهم قطع لحم، والله تعذبت كثيرا، وكنت أخاف عليهم، أمنيتي الوحيدة أن أشوف نعيم في بيته مع أولاده.
لم يفرج عن نعيم الشوامرة 43 عاما سكان دورا الخليل والمعتقل بتاريخ 14/3/1995 في صفقة تبادل الأسرى، وقد ترك وراءه طفله منجد بعمر 5 شهور عند اعتقاله، وكانت زوجته حامل منذ شهرين وأنجبت بنتا اسماها نداء، وهي محرومة مع شقيقها من الزيارة.
استجابت السماء والقيادة الفلسطينية لنداء والدة نعيم فأفرج عنه عام 2013 وفق التفاهم الفلسطيني الاسرائيلي الامريكي بالافراج عن الاسرى المعتقلين قبل اتفاقيات أوسلو، وخرج من السجن معاقا ومريضا بمرض ضمور العضلات، كان هادئا لم يطرح علينا أسئلة الموت الصعبة لاحقا وسابقا، عاش ثلاث سنوات بعد الافراج وارتقى شهيدا تاركا أمه التي حاولت أن تفرح بحريته غارقة في الحسرة والبكاء.
نحن أصدقاؤه المفجوعين قال لنا لا تعتذروا عن حلمكم وحلمي الجميل، وان كان هناك من اعتذار فهو لأمي التي فاجأتها الحرية المنقوصة كما فاجأها موتي بعد قليل، وما عليكم سوى أن تحرروا الأسرى المرضى من تلك القبور التي تفوح منها رائحة الجريمة على مدار الساعة.
حملنا الشهيد نعيم على اكتافنا في يوم دام الي البيت والقبر وكلنا نتمنى أن يقبل اعتذارنا، أن تقبل والدته اعتذارنا فقد ترك رحيله في قلوبنا خنجرا وفي وصيته خوفا وقلقا على اصدقائه الاسرى هناك في السجون، فهو الذي كتب لنا: لا تسمحوا أن يموت الاسرى مثلما مت أنا، انقذوهم من جرائم طبية ممنهجة ترتكب في ساحات السجون، لم يكن يعلم الشهيد نعيم أن عمليات قتل الاسرى مرضا وتعذيبا قد تصاعدت، وأن اصدقاء له قد رحلوا من بعده: داود الخطيب، فارس بارود، سعيد الغرابلي، كمال أبو وعر، فادي الدربي ونصار طقاطقة وسامي أبو دياك وبسام السايح وياسين السراديح وغيرهم من الشهداء.
ظلت أم نعيم تصرخ بصرخات أعلى من السياج والمعسكرات، زفراتها أسماء نساء وأمهات وقاصرات ظلالهن لا تقاس إلا في المسافة الداكنة بين الليل وشبك الزيارة، يحملن صور أولادهن وصورهن في الذهاب والإياب، يقعن في منتصف الطريق، وأخريات يكملن أل 45 دقيقة في الزيارة يتحدثن عن الطفولة والذكريات.
الأمهات اللواتي أبكين السماء، يشربن الموت الفجائي مع الأحياء، يحرسن خارطة الوطن في السجن وبعد السجن، مؤمنات أن للمرأة جناح نسر يرتفع الى الأعلى، وأنهن على وشك الإنجاب كل حين كأنه لا معسكر ولا قناصة يحيطون بسطوح الفرح ومخاض الحلم والغناء.
أمهات وأمهات وأمهات، الحنين والتراب والضوء والجمال الكامل المتكامل الكلي في أبد المستحيل، قمم بعيدة، ورائحة تستعيد البعيد قريبة ، ومن له أم له اسم وأرض وهوية، ومن له أم يستطيع العودة من الظلام الى الحرية مطمئنا الى ضوء الأبجدية.
في عيد الأم ترى للماء لونا، والربيع كامل الأعضاء وهو ينقح الأشجار بعد عدوان للمستوطنين وكلابهم المتوحشة ، وترى خبزا في موقد النار وأغنية أنثوية تدربك على النمو أكثر في صخرة الوادي، فهناك الروح عند ملتقى الغيم تناديك كي ترفعها.
في عيد الأم إذهب الى بيت نعيم شوامرة، إجلس على الحصيرة وانظر حولك، ترى أمك فيك أسيرة أو شهيدة أو طريدة ، وإمسك بيديها لتشعر بالصقيع و المرض وهي تدثر ولدها على البرش في سجن عسقلان، أو تشتبك مع الجندي على حاجز الظاهرية، إمسك يديها لتشعر أن القدس في دمها ساهرة.
في عيد الأم تتربع اسراء الجعابيص و12 أما أسيرة فوق موج البحر المتوسط يقرعن أجراس النخيل، المرأة الفلسطينية جوعا وصبرا وإرادة، الأسيرة الجريحة والمعذبة الغاضبة الفائضة بالزهر والحرية والدولة والناطقة باسم كل النساء الفلسطينيات، تتحدى السجان كي لا تسقط الأسماء.
في عيد الأم خجلنا وبكينا أمام والدة نعيم شوامرة، تلك الأم التي حركت كل جهات القلب في الدنيا وهي تفتش عن شفاء ودواء، ناشدتنا وشدت على أيادينا لاعادة ولدها سليما وحيا كما كان، خجلنا وتوارينا خلف التراب والغبار ودخلنا في هذا الصمت المريب.
في عيد الأم يكتب الشهيد نعيم الى أمه: أمي ازرعيني برفق بيديك حفنة من هواء.. أنا بذرة من بذورك ستظل خضراء خضراء، سأحمل عنك الكلام الأخير، انتظري قليلا، هناك سحاب يعصر السماء.