محمد نعيم فرحات*
كان الانتظامُ البنّاء في الواقع وسيبقى ضرورة وحاجة للتحقق المناسب والنسبي في الحياة ضمن أي مستوىً كان. والانتظام يعني متطلبات كثيرة، كامتلاك الاستعداد والتكيف الايجابي والتعاون والفاعلية والموضوعية، وهو، لن يكون بدون توفر وعي متناسق فعّال وبناء، يحدد فيه المرءُ موقفه من نفسه ومصالحه وعواطفه وتحققه ومن الآخرين ومن العالم بما هو كل شيء خارجي على ما فيه .
واحد منا بحجم ومعنى ابن خلدون كثف الأمر على نحو عميق، عندما قال بداهة الحياة وطبيعتها في نصف جملة عادية جدا ومدهشة جدا "الإنسان مدني بالطبع".وترك لنا الأطروحة الكبرى في فقه الحياة وإستراتيجية كسبها على نحو لائق ومقبول عندما حدد شروط ومتطلبات "الاجتماع الإنساني والعمران البشري". وما كان لهذا الأمر أن يكون بدون وعي مناسب، مستقر، متماسك ، حيوي، متكيف، صبور،يلاقي الضرورة والحاجة كما يتعين، وارثٌ ويُوِرثُ، "مؤمن بحس المهمة وبأهمية إنجازها"، مسئول، يقظ، ويستخلص العبرة والدروس من التجارب، صادق مع نفسه، ومنفتح على التعديل، ومتسع. لكن ابن خلدون ذهب بينما ظلت الأمة التي ينتمي أليها تتقلب في فشل أشكال وعيها وطرائقه في التعاطي مع الواقع وتداوله. بل ثمة ما يدعو للقول إنها أمة تحول الفشل عموما إلى فكرة ورؤية وخيار وثقافة.
***
الحياة بطبيعتها هي هبة كريمة وهي بذات القدر اختبار قاسٍ، وما يبدو فيها حق هو في الجوهر استحقاق مُضنِي، الذين تمكنوا من عيشها بفعالية وبرضاً نسبي وكفاءة وانجاز وتحقق لائق، هم الذين كانت لديهم طريقة وعي ملائمة، أما الذي كانوا يخسرونها على أعينهم، فهم الذين كان وعيهم قاصرا، مشوشا، مفككا، غير متناسب وعقيم ولا عزم فيه.
ورغم ما تقوله عبرة الحياة، ورغم أن السماء العالية قد أرسلت للعالمين عبر العرب عن قصد، رؤية، وطريقة وعي منظمة، واقعية، متدرجة، متطلعة،مغرية، متلطفة بالناس ومزدحمة بالوعد وبالوعيد، وقدمتها لهم كدليل عام صالح لتدبر أمور في الدنيا و يوم تقوم الأشهاد، إلا أن الذين تمثلوا رؤية السماء ومنطقها منهم كانوا القليلين، أما الذين لم يفهموها، أو أساءوا فهمها، أو وظفوها على نحو بعيد أو مخالف لمقاصدها فقد كانوا الكثيرين.
***
عندما تؤكد الثقافات على أشياء بعينها عند الجماعات التي تنتمي إليها يكون ذلك لسببين أساسيين، الأول، لتثمين قيمة موجودة عندهم بكثافة تكون الثقافات معنية بالتذكير بها واستحضارها وتعزيزها. والثاني يرتبط بمدى غياب هذه القيمة في حياة الجماعة وتذكيرهم بمدى الحاجة إليها وضرورتها.
ثقافة العرب وبتأثير من الإسلام دوننا عن كل ثقافات العالمين لم تتعامل مع الكذب كعيب أخلاقي فادح لا عيب يعلو عليه فحسب، بل كإثم بالمعنى الديني يُحاسبُ عليه مرتكبه هنا وفي الآخرة معا،ورسولهم الكريم الذي كان عزيزا عليه ما عنتوا وعصوا، جعل الكذب دونا عن غيره من منظومة الأخلاق السيئة، محددا لان يكون المرء مؤمنا أم لا" وينسب إليه الجواب الحاسم عن السؤال الواضح: أيكذب المؤمن ، قال ،لا". لو وقفنا أفراد وجماعات وتركيبات، أمام المعيار الذي وضعه الرسول الكريم بكافة معانيه و بما هو أسوة حسنة، كم منا سيكون في صفوف المؤمنين الذين نجوا من أن يكونوا كذابين!!
والعرب أنفسهم هم الذي قالوا " الزمن كالسيف، إذا لم تقطعهُ قطعَك" والزمن هنا هو مسارات وخيارات وأقدار وثروة تذهب هباء منثورا إذا لم يجري استثمارها، ومصائر وسعي وتحقق تجري فيه ممارسة الحياة بالذخيرة الحية. وبالقياس لحكمتهم عن الزمن، فإن العرب هم أكثر شعوب الأرض ضحايا لسيف الزمن، وصدى قولهم عنه يوجد في واد وتعاملهم معه يوجد في واد أخر غير ذي زرع.
***
أسوة بغيرهم من عباد الله على ظهر البسيطة، تتوفر للعرب أفرادا وفئات وجماعات ومجتمعات وحكاما ومحكومين فرصة لنيل الحياة واستحقاقها على نحو معقول ، لكن واقع الحال يشير إلى ترديهم في فشل مستدام يبدو وكأنه متوافق عليه.
فحص الواقع والسياقات يحيل دائما إلى خلل عميق متأصل يرقى لمرتبة إثم يوجد هناك: في طبيعة وعيهم وطينته الأولية وطرائقه وتعاطيه وخلفياته وعاداته وغرائزه.
كأن " وعد" وعي العرب الملائم لا يصل أبدا، لذلك علينا أن نتدبر أمر العيش في كنف الفشل رغم أنوفنا إلى أن نبدل...
* كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين