الكاتب: د. محمد نعيم فرحات
في علم الصرف والنحو فإن فعل "كان " هو فعل ماضي ناقص، يفيد الاستمرارية، غير أن إعرابه في الحياة وفي السياسة والحب والحرب والتاريخلا يفيد الاستمرارية، إلا إذااستطاعأسم "كان" المرفوع التسلل خلسة أو علنا على رؤوس الأشهاد لمواصلة أدواره المتوافقة مع الضرورة والحاجة والتوقعات كما يتطلبها التحقق الشاق في الحياة.وفي حقيقة الأمر فإن الخبرة الإنسانية تقول بأن فعل"كان وأخواتها" في الحياة هو أيضا فعلٌلئيمٍ، قاسٍ،مهينٍ ويبعث على الحسرة والأسى والندم،خصوصا عندما يصبح ما كان يجب فعله في حينه وراء ظهورنا وبعيد عن متناولنا.
***
في يوم من أيامنا الخوالي،لفتواحد من كبار المشغولين بأسئلة الوجودبحجم محمود درويش نظرنا للحذر من "بؤس الحاضر الذي يجعل الماضي سيدا للأيام"واستدعاء فعل "كان" كي يشكل تعويضا أو كي يملأ فراغ الحاضر المرير، ومن باب فطنة الوعي وجمالية توقعات الشعر أستدرك كي يقول لنا على هيئة تمنٍ وليس جزما:"ما أجمل الماضي يجيء غدا"، وهي فكرة استبطنها عقل راجح من وزن دولة الرئيس إيليالفرزلي، كواحد من كهنة السياسية في لبنان المعاصر، فسطر تحتها مذكرات خصيبة وممتدة بعنوان "أجمل التاريخ يأتي غدا" أحال فيها أمل السياسة إلى الغد، محاولا منع بشاعة الفعل السياسي الناقص الذي يتواصل في زمن مضارع سيء من تشويش الغد القادم بأفعاله وبأثقاله .
لا الحركات السياسية-بأغلبيتها- ولا غيرهامن تلك التي عرفناها، ولا نحن:أفرادا ومجتمعات، عامة وخاصة،باستثناءات محدودة لدرجة غير ملحوظة،أصغينا كما يجب لموعظة الزمن وتعاليمها كما قالها محمود درويش.
وفي خضم سوء فهمنا وسوء تعاطينا المتعاظم مع الزمن وأبعاده المختلفة،أخطئنا على نحو جسيم وغير مغفور تاريخيا،عندما لم نمضِ لنيل استحقاقاتنا في الحياة والتعاطي مع جديلة الزمن العظيمة بأبعادها الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل باستقامة كافية وذكية ومتخيلة.لقد فضلنا–ودائما- كلٌ على طريقته: الإقامة غير المجدية في ماض يتآكل حتى كذاكرة،والتعايش مع حاضر يفيض ببؤس مستدام، وكانت قامات وعينا وإدراكنا أقصر من رؤيةالغد وتحويله لوعد قادم نسير إليه بكبد لا تلعثم فيه،وتمكنا من إنجاز مدهش لا يقدر عليه أعدائنا، حيث نجحنا إلى حّد بعيد في تحويل الغد لقلق وتهديد ماثل واتٍ.وبسبب سوء الصنيع صرنا ضحايا الفعل الماضي الناقص، ونحن نعرفعن سابق إصرار وترصد بان هذا الخيار هو درب موصوف كي نصاب بفقر دم تاريخي ونضمحل دون أن ننال شرف-حتى- أن نصير أثرا بعد عين.
***
في المجتمعات الحية والحيوية التي تعيش ظروفا عادية وطبيعية،والتي تكون مشغولة بزمنها وقضاياه بصدق،تتبلور كل يوم فرص ومناسبات لتجديد طاقاتها وحضورها وشرعيتها. وعندما تكون الظروف استثنائية كما هو حال المجتمعات العربية تصبح الحاجة لسلامة الوعي وإعادةإنتاج الحضور مطلب ضروري وحاسم وترقى استقامة الحياة السياسية في أحوال مائلة لمرتبة الجهاد الذي يحتاج لمؤمنين كبار كي يطاولونه.
إن أغلب القوى على أنواعها والفاعلين على تصنيفاتهم، التي تحتل المشهد العام في مشارق العرب وفي مغاربهم، لم تنجز أي بند متكامل من جدول أعمالها التاريخيبمن درجاته المختلفة، وهي تنتقل من لحظة لأخرى محمولة على أزماتها وعللها الوافرة وفقا لمذاهب شتى، وتتحرك في بيئة سياسية معتلة سبق لها أن ساهمت على نحو وافر في صناعتها .
وبقوة العلة ومفاعيلها، تتحول الفرصة الكامنة في المشكلة والضرورة في تاريخناإلى هباء وخراب وإفساد للوعيوللروح وللزمن، وإلىتزويد الضائقة وثقافتها بعناصر استمرار جديدة، وتحويل الحياة لما يشبه المقبرة الحقيقية والمجازية،بامتياز عذاب من نوع جنبتنا إياه السماء الرحيمة ، هو أن يمشي الناس فوق بعضهم البعض في قبورهم التاريخية قبل الوصول للقبور الموعودة في الدنيا، وما من مجتمعات حولت الأفق الفسيح لأقبية ووكر للخيبات المترامية مثل اغلب العرب المعاصرين.
***
اليأس والإحباط والقنوط والضياع والفقر والتبديد والهّدروالاستتباع والافتراس وأثقال الفعل الماضي الناقص ومخلفاته تقيم حصاراتها المحكمة علينا من هناك إلى هنا وفي كل اتجاه، وتفقدنا كرامتنا الوجودية والقدرة على الأمل.ويبدو وكأن العرب قد تمكنوا من إبطال عمل قوانين سارية في التاريخ مستمدة من قوانين نافذة في الطبيعة ،لأن المثال الذي يضربونه بالذخيرة التاريخية الحية يقول بأنه يمكن تعبئة الفراغ في التاريخ بمزيد من الفراغ، وتحويل الفراغ لما يشبه المصير، وهذا ليس من خصائص التاريخ السّوي.
ثمة ما يدعو لاستدعاء أبن خلدون على عجل، كي يرى كم يزدحم تاريخ العرب بالأفعال الناقصة وعمل الخلايا الناقصة في وعيهم، وكي يعاين قدرتهم المبهرة في حقن دورة التاريخ العظيمة كما شرحها لهم على نحو بصير، بفراغ كأن لا نهاية له وبشتى أنواع الركام.تاريخ يحولونه بجلالة قدره منذ اجل يتطاوللكاتب يحصي ضحايا الفراغ.