د. جمال زحالقة
توالت في الأيام الأخيرة تصريحات لمسؤولين فلسطينيين توحي بأن تأجيل انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، التي من المفروض أن تجري يوم 22.5.2021، هي إمكانية واردة، لا بل مرجّحة. لم يعد أحد يتحدّث عن الانتخابات الفلسطينية، بدون أن يلصق بها «إذا» الشرطية، علما بأنّ «إذا» في القاموس السياسي العربي تفضي عادةً إلى الاحتمال الأسوأ.
في المقابل بدأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية استعداداتها للتعامل مع تداعيات إعلان تأجيل الانتخابات، وهي تتوقّع، كما جاء في بعض وسائل الإعلام، أن يتم ذلك في الأسبوع المقبل. ونظرة خاطفة إلى ما تراكم من أخبار وشائعات وتسريبات وتصريحات بهذا الشأن، تكفي للاستنتاج أن الانتخابات هي فعلًا في طريقها إلى التأجيل.
باعتقادي أن إعلان الذهاب إلى انتخابات للتشريعي أولا، وبعدها للرئاسة ويليها انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني، كان خطأً، والتراجع عن إجراء الانتخابات الوشيكة، بعد كل ما كان من تحضير وحراك حولها، سيكون خطأً أفدح، ويبدو أننا في الطريق إلى معالجة الخطأ بخطأ أكبر، ومن يدفع الثمن، كالعادة، هو الشعب. تستمد الانتخابات الفلسطينية للمجلس التشريعي وللرئاسة شرعيتها من اتفاقية أوسلو وما تلاها من اتفاقيات منبثقة عنها. ومهما كانت النوايا والشعارات، فإن انتخابات التشريعي والرئاسة، تبقى في إطار اتفاق أوسلو، التي تحدد الأساس والسقف في آن. وهي، شئنا أم أبينا، تحمل في طياتها تجديدا لمشروعية هذا الاتفاق، والتزاما صريحا أو ضمنيّا به، وبما هو مسموح أو ممنوع تبعا له، وكل محاولة لتجاوز حدوده أو للإفلات من الالتزام به، وبالأحرى بالتأويل الأمريكي والإسرائيلي له، تواجه بفرض عقوبات إسرائيلية ودولية وحتى عربية، كما حدث بعد فوز حماس بأغلبية في المجلس التشريعي عام 2006. من جهة أخرى لا يوجد ضمان أن لا تؤدّي الانتخابات إلى تعميق الانقسام، وإلى زيادة الصراعات والتصدعات، خاصة أنه بعد الشق بين فتح وحماس يأتي شق بين فتح وفتح. ولا ضمان أيضا، أن النتائج ستحترم فعلا، فهل سيتخلّى الطرف، الذي يخسر الانتخابات، عن سلطة أجهزته الأمنية، وعن هيمنته على «الدولة العميقة»؟ إذا صح هذا التعبير في ظل غياب دولة.
كلما كانت الكيانات السياسية أكثر تماسكا وصلابةً ووحدةً، زادت قدرتها على تحمّل النقاشات الحادّة والمنافسات الشرسة، لأنّها لا تهدّد صلب وحدة وواحدية الكيان ذاته، وقدرته على امتصاص الرجّات الناجمة عن الصراعات الداخلية الصعبة. هذا هو حال معظم دول العالم، التي لا تهدد الانقسامات الداخلية كيانها. في الحالة الفلسطينية، الانقسام هو أمر واقع وهو انقسام عمودي بين كيانين ونظامين، والانتخابات وحدها لن تحل هذه المشكلة بل قد تفاقمها، لأن منطق الانتخابات هو حسم المنافسة الأفقية على السلطة، بين قوى سياسية في إطار كيان واحد. وحتى تكون الانتخابات رافعة لإنهاء الانقسام، فهناك لزوم لاتفاقات وخطوات استباقية غير متوفّرة في السياق الحالي. من هنا فإنّ الذهاب إلى انتخابات المجلس التشريعي قبل تأمين وحدة الكيان، وقبل حسم مسألة عدم الخضوع لاتفاق أوسلو، وقبل ضمان احترام النتائج فعلا لا قولا فحسب، هو خطأ سياسي كبير بحق الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية. لكن تأجيل الانتخابات بعد الدخول في معمعانها والتراجع عن هذا الخطأ هو خطأ فادح وأكبر بكثير، لأنّه سيؤدّي إلى دخول السياسة الفلسطينية إلى نفق مظلم، فيه الظلام اشدّ حلكة مما هو عليه اليوم. وسيؤدّي إلى زيادة الإحباط إحباطا، وإلى تفاقم عدم الثقة بالقيادة وبمشروعيتها، وإلى المزيد من ابتعاد الحاضنة الشعبية عنها، ما قد يؤدّي إلى المزيد من الاعتماد على العلاقة مع إسرائيل والغرب والمطبّعين العرب، وإلى تراجع خطوات إلى الوراء وتكبيل الإرادة العامة الفلسطينية لا تحريرها من قيودها الحالية. يبدو انه سيجري تأجيل الانتخابات، والنقاش هو حول كيف؟ ومتى؟ وبأي ذريعة؟ ومن المسؤول؟ وماذا بعد؟ سبب التأجيل الحقيقي معروف وهو خشية قيادة حركة فتح من خسارة الانتخابات، في ظل الانشقاقات في الحركة، مقابل وحدة وتماسك حماس، ما قد يأتي برياح لا تشتهيها سفن قيادة السلطة وفتح، وبمجلس تشريعي جديد فيه أغلبية لمن هم ضد قيادة الرئيس محمود عبّاس وما يمثّله. عندها سيكون من الصعب جدّا عدم إجراء انتخابات رئاسية قد يفوز فيها مروان البرغوثي. هذا بالنسبة للقيادات الفلسطينية المتنفّذة، سيناريو رعب تسعى إلى منعه فورا، ولن تنضب الذرائع والحجج لوقف المسلسل الانتخابي المعلن عنه.
إسرائيل من جهتها لا تريد الانتخابات، لكنّها لا تريد أن تتحمل مسؤولية إفشال عملية ديمقراطية. وقد وجهت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في الفترة الأخيرة، رسائل تحذير إلى القيادة الفلسطينية من إمكانية فوز حماس وإضعاف مكانة حركة فتح، وأكّدت هذه الأجهزة أنها ستقوم بالتعامل مع أي وضع جديد بشكل مختلف لضمان «أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها». وحتى تبقى بعيدة شبهة تعطيل الانتخابات، التزمت القيادات الإسرائيلية الصمت المطبق حولها، ولم يصدر عن أي مسؤول إسرائيلي أي تصريح رسمي، ولا حتى غير رسمي أي تطرق إلى الانتخابات الفلسطينية، وحتى التسريبات كانت شحيحة، ما يشير إلى أن هناك قرارا مركزيا بمنع الكلام عن الموضوع. ويهدف هذا الصمت الوظيفي إلى ترك الانتخابات تنهار بتلقائية فلسطينية، بدون أن تتهم إسرائيل بالمسؤولية عن منعها. المشكلة أن القيادة الفلسطينية لا تستطيع أن تعلن عن عدم إجراء الانتخابات، بدون التذرّع بأن إسرائيل هي السبب. فهل ستمنح إسرائيل «ذريعة مقنعة»؟ يبدو أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مستعدة لذلك، لكن القيادة السياسية، وتحديدا نتنياهو بخيلة حتى في إهداء الذرائع.
لم ترد إسرائيل على المطالب الدولية بالسماح بالتصويت في القدس، وتسهيل الانتخابات في الضفة الغربية عموما، على الأقل كما كان في انتخابات 2006. عشية تلك الانتخابات اتخذت الحكومة الإسرائيلية في جلسة رأسها إيهود أولمرت (شارون كان في المستشفى) قرارا، بعدم منع الانتخابات، مع التأكيد أنها لن تتعاون في إجرائها بسبب مشاركة حماس فيها. وبرر أولمرت عدم تعطيلها بأنها تجري في إطار خطة «خريطة الطريق» الأمريكية، وأن هناك التزاما من الرئيس محمود عبّاس باحتواء حماس وتحويلها إلى حزب سياسي غير مسلّح. نتنياهو بالتأكيد أكثر تطرفًا من أولمرت، وما يلزمه هو «صفقة القرن»، وعليه من المستحيل أن يعلن موافقته على إجراء انتخابات فلسطينية تشارك فيها حماس، خاصة أن لا وعد باحتوائها ولا مصداقية لمثل هذا الوعد لو حصل. يبقى السؤال إلى أي درجة هو مستعد لتحمّل مسؤولية منعها ومنح ذريعة لذلك.
الذرائع المتاحة، حتى الآن، لتأجيل الانتخابات هي ما يقوم به الاحتلال من ملاحقة واعتقال لمرشحين وناشطين في القدس والضفة الغربية ومنع الدعاية والحملات الانتخابية في القدس، وعدم الاستجابة لمطلب إجراء الانتخابات في القدس. إسرائيل لم تعقّب رسميا على هذه الإجراءات، لكنّها، وبالعودة إلى ما كان في انتخابات 2006، تشترط أي نشاط انتخابي في القدس بموافقة مسبقة من الشرطة، وهذا بالطبع شرط تعجيزي لتأكيد سيادتها في المدينة. ولكن لو توفّرت النية لكان بالإمكان التغلّب على هذه المصاعب، وحتى تحويل الانتخابات إلى تحدٍّ للاحتلال، وإلى جعلها فعلا مقاوما لتهويد القدس. لكن يبدو أن النية هي باتجاه التأجيل و»الاكتفاء» بما تقدمه إسرائيل من ذرائع. كل الدلائل تشير إلى أن الإعلان عن تأجيل الانتخابات أصبح وشيكًا.. رد الفعل التلقائي على مثل هذا الإعلان سيكون إدانة واستنكارا ورفضا ومطالبة بإجراء الانتخابات في الموعد المقرر. لن تكون بالطبع استجابة لمثل هذا المطلب، وسيكون هناك عوضًا عن ذلك وعد بإجرائها في موعد لاحق، وعرض لإقامة حكومة وحدة وطنية ومحاصصة معيّنة في السلطة. وعمليا ستكون الدوّامة التي تلي الإعلان عن تأجيل الانتخابات أصعب من الدوّامة التي سبقت الإعلان عن إجرائها، وسيكون المشهد الفلسطيني مضطربا وبائسا ومتخبّطا ومتشظّيا، وتصح في وصفه مفردات عربية أشدّ وطأةً.
ما العمل إذن؟
بما أنه من الصعب جدًّا إقناع القيادة الفلسطينية بعدم إلغاء الانتخابات التشريعية، أرى أن الأصح هو طرح انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني على الفور، والدخول في مسار عملي متفق عليه لإجرائها. كان من المفضّل أصلا أن تكون انتخابات المجلس الوطني هي الأساس، لرد الاعتبار للحالة الفلسطينية كحالة تحرر وطني، لا صراعا على سلطة تحت الاحتلال. هذه الانتخابات ليست مشتقة من اتفاق أوسلو، بل تستند إلى النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي ينص منذ إقامتها على الانتخاب المباشر.
قد يكون مسار إجراء انتخابات المجلس الوطني أصعب وأكثر تعقيدا من انتخابات التشريعي والرئاسة، لكنّه هو الأصح، لأنّه يصلح مسارا لإعادة الوحدة وللمشاركة السياسية للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، ولصياغة المشروع الوطني الفلسطيني ولتفعيل عمل وطني متحرر من إغلال أوسلو. وفقط بعد إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية عبر الانتخاب الديمقراطي والتوافق الوطني، يمكن الذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية، لا تكون فوق المنظمة، بل تأخذ شرعيتها منها. علينا أن لا نستسلم لليأس حين يجري تأجيل الانتخابات، وأن نندفع بقوة نحو السير في الطريق الأصعب والأصح وهو الانتخاب الديمقراطي للمجلس الوطني لأول مرة منذ تأسيسه عام 1964.