الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ماذا خسر المسلمون بعزل المعتزلة؟

نشر بتاريخ: 24/04/2021 ( آخر تحديث: 24/04/2021 الساعة: 15:32 )

الكاتب: د. وليد القططي

يقف المسلمون اليوم في ظل أزمتهم الحضارية أمام تحديين؛ تحدي التغريب والاستلاب الحضاري، القائم على العقل المفصول عن النص الديني، وتحدي التسلّف والاستلاب الماضوي، القائم على النقل المفصول عن المنطق العقلي، وكلٌّ من التيارين - التغريب والتسلّف - يحاول أنْ يشدَ الأمة إليه.

الخروج من الأزمة الحضارية يقتضي التوفيق بين العقل والنقل، والتراث العربي الإسلامي لم يغفل عن هذه الحقيقة، فقد قدمت المذاهب الاعتقادية والمدارس الفكرية إسهامات مهمة في هذا الجانب، وفي مقدّمتها مدرسة المُعتزلة؛ تلك المدرسة التي عُزلت عن الحياة الثقافية العربية والإسلامية على يد خصومها الفكريين، فأزهقت روحها، وشُوّهت سمعتها، وأُحرقت كتبها، ففقدت الأمة بذلك أهم دعاة التحرر الفكري والتفكير العقلاني، فماذا خسر المسلمون بعزل المعتزلة؟

ظهر مذهب المعتزلة في آخر العصر الأموي على يد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد في البصرة، اللذين انفصلا عن أستاذهما الحسن البصري، بعد أن خالفاه في مسألة مرتكب الكبيرة، فنشأ المذهب كرد فعل على تطرف مدرستين في الدين والسياسة، هما الخوارج والمرجئة، ولا سيما في مسألة مرتكب الكبيرة من المسلمين، فهو كافر عند الخوارج ومؤمن عند المرجئة، فجاء المعتزلة بنظرية المنزلة بين المنزلتين، واعتبروه فاسقاً بين الإيمان والكفر، واستمر وجودهم في العصر العباسي الأول كحاجة إسلامية داخلية للتخفيف من تطرف التيار السلفي النصوصي الحرفي، وكذلك كحاجة إسلامية خارجية للرد على أعداء الإسلام بمنهجهم العقلي المنطقي الفلسفي نفسه.

هذا ما أكّده ابن خلدون قديماً في مقدمته عندما عرّف "علم الكلام" الذي جاء به المعتزلة، فقال: "علم يتضمن الحِجاج عن القواعد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السُنّة"، وهو ما أكّده محمد أبو زهرة حديثاً في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية" عند الحديث عن المعتزلة، بقوله: "إنّهم قاموا بحقّ الإسلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد كيد الزنادقة والملاحدة والكفار في نحورهم، وكان لا بد من وجودهم ليوقفوا تيار الزنادقة الذي طُمَّ في أول ظهور الدولة العباسية. لذا، كان الخلفاء الأوائل في هذه الدولة يشجعونهم".

هذا التشجيع تحوّل إلى تبني الخلافة العباسية لمذهبهم الاعتقادي في عهد المأمون، فالمعتصم، ثم الواثق، وارتبط اسم المعتزلة بالقمع الفكري العباسي ضد العلماء المخالفين لمذهبهم، وظهر ذلك في قضية "خلق القرآن"، ومن أبرزهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي أُوذيَ في ما عُرف تاريخياً بمحنة خلق القرآن، التي انتهت بتولي المتوكل الخلافة، لتبدأ محنة المعتزلة من الدولة العباسية وخصومهم الفكريين، وخصوصاً من التيار السلفي، وتزامن ذلك مع نشأة المذهب الأشعري على يد إمام المعتزلة في عصره أبي الحسن الأشعري، الذي انشقّ عنهم وأنشأ مذهباً اعتقادياً وسطاً بين المعتزلة والسلفية، جامعاً بين النقل والعقل، وناصراً للنقل - القرآن والسُنّة - بدلالات العقل، وموظفاً العقل في بيان نصوص الوحي قرآناً وسُنّة، فاجتمع على المعتزلة قمع السلطة العباسية لهم، وتطرف التيار السلفي ضدهم، وانتشار المذهب الأشعري بديلاً منهم، ومزاج العامة المُعادي لهم، فأُخرجوا باتفاق السلفية والأشعرية من دائرة "أهل السُنّة والجماعة"، لتبدأ الغيبوبة الحضارية للأمة في آخر العصر العباسي، وتُحقن بجرعة جديدة من التطرف ضدهم، بعد إعادة إنتاج السلفية بالعباءة الوهابية المُغمّسة بالبترول.

بإخراج المعتزلة من دائرة أهل السُنّة والجماعة وعزلهم عن الحياة الفكرية والثقافية العربية والإسلامية، خسر المسلمون أهم التيارات الفكرية التي كان من الممكن أن تحافظ على توازنهم وحيويتهم أمام تيارات الجمود والرجعية من جهة، وتيارات الميوعة والتغريب من جهة أخرى.

ومن أمثلة الاتجاهات التي كان من الممكن أن تكون في وضع أفضل بحضور المعتزلة، الاتجاه العقلي الذي ميزهم، فقد اعتبروا أن النظر العقلي أول الواجبات التي تؤدي إلى الاستدلال على الحقائق، وفي طليعتها حقيقة وجود الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته، فالعلم بالله تعالى نظر إنساني حر يتم بواسطة العقل والتفكير، ومن ثم يؤدي إلى معرفة الخير والشر، والتمييز بين الحُسن والقُبح، ويقود إلى فهم القرآن والسُنّة بإعمال العقل في نصوصهما، فهو وسيلة لفهم مُراد الوحي قرآناً وسُنّة، وكان للمعتزلة دورٌ في توسط الأشعري بين المعتزلة والسلفية في التوفيق بين العقل والنقل، نظراً إلى خلفيته الفكرية الاعتزالية عندما كان إماماً لهم أربعين عاماً قبل خروجه عليهم.

كان من الممكن أن يكتسب الاتجاه النقدي قيمة أكبر بحضورهم، فالانتقاد، في نظرهم، وظيفة منهجيّة يضطلع بها الفكر الحر حين يُجيد المعرفة والفهم، ويميز بين الحق والباطل والصواب والخطأ، فقد رفض المعتزلة أن يكون الدين مجرد نصوص يتم تلقينها للمؤمنين ليحفظوها ويرددوها، ورفضوا أن يكون العقل البشري عاجزاً عن إدراك المقاصد الإلهية العظيمة من خلال نصوص الوحي.

وقد نظر المعتزلة نظرة انتقادية إلى أحداث التاريخ، وذهبوا إلى فهمها وتفسيرها والحكم عليها من دون حواجز العصمة والقُدسية التي يضربها البعض على شخصيات التاريخ في العصور الإسلامية جميعاً، كما نظروا نظرة انتقادية إلى العلوم الإسلامية، فرفضوا انحراف بعض العلماء في مجالات التفسير والحديث عن الحد المنطقي المعقول، وكانت الروح العلمية الانتقادية لديهم هي التي تؤدي إلى شعور الإنسان بكرامته الإنسانية، من خلال الإيمان بعد قناعة ويقين والمعرفة بعد دليل وبرهان.

كان من المُرجّح أن يكتسب الاتجاه التحرري مدلولاً أعمق بحضور المعتزلة، فالاعتزال يحوّل حرية التفكير في الإسلام إلى فكر حر قدر المستطاع، ويعمل على ترسيخ حق الإنسان الذاتي في ابتكار آرائه وتحمّل المسؤولية الواعية عن أفعاله وأعماله التي يخلقها لنفسه، وكان موقفهم التحرري من احترام إرادة الإنسان جوهر نظريتهم في "العدل الإلهي"، فالله تعالى هو الذي خلق في الإنسان حرية الإرادة والفعل، مُتحمّلاً مسؤولية أفعاله، وبالتالي مستحقّاً الجزاء على ما يفعله ثواباً أو عقاباً في الآخرة. هذا الاتجاه التحرري هو معيار إنسانية الإنسان وكرامته، ودليل على العدل الإلهي، فكيف يُجبر لله - سبحانه وتعالى - عباده على فعل قدّره عليهم، ثم يُحاسبهم لأنهم فعلوه؟

الاتجاه الثوري كان سيأخذ عمقاً أكبر بحضورهم، وهذا الاتجاه واضح في نظرية الإمامة عندهم، وفي الأصل الخامس في مبادئهم، وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فكانت نظريتهم في حرية الإنسان ذات بُعد سياسي مُعارض للسياسة الأموية الاستبدادية وضد قولهم بالجبرية لتبرير أخطائهم، وتنصيب الخليفة عندهم له طريق واحد هو الاختيار والبيعة، مقابل "تولية العهد" الأموية، فرفضوا بذلك طريقة "النص والوصية" عند الشيعة، كما رفضوا شرعية "إمارة المتغلّب" عند أهل السُنّة والجماعة، وميزوا بين ما هو حق واختصاص لسلطة الخليفة وما هو حق واختصاص للأمة، وجعلوا من قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً للدعوة الإسلامية، ومدخلاً لمشروعية الثورة ووجوبها على الحاكم الفاسق إذا أخلّ بشروط البيعة مع الأمة بعد مراقبته ومحاسبته ونصحه، فانتقلوا بتلك القاعدة من المسؤولية الفردية إلى المسؤولية الجماعية للأمة، كممارسة ثورية لانتزاع الحرية، ومشاركة إيجابية لكل أفراد الأمة.

بهذه الاتجاهات العقلية والنقدية والتحررية والثورية، بمضامينها العلمية والإنسانية والإيجابية والتجديدية، كان من المُرجّح أنَّ حال العرب والمسلمين سيكون أفضل من واقعهم الحالي المتردّي، وكان من المؤكد أنهم سيتجاوزون أزمتهم الحضارية التي تسبب فيها كلٌ من الاستلاب الحضاري الغربي والاستلاب التاريخي الماضوي.

هذا ما توصّل إليه المفكر والأديب المصري أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام"، بقوله: "كان مسلك المعتزلة مسلكاً لا بد منه... لقد قرروا سلطان العقل، وبالغوا فيه أمام من لا يقر للعقل بسلطان، بل يقول نقف عند النص... وقال المعتزلة بحرية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته، حتى جعلوه كالريشة في مهب الرياح، أو كالخشبة في اليم. وعندي أنَّ الخطأ في القول بسلطان العقل وحرية الإرادة والغلو فيهما خير من الغلو في أضدادها. وفي رأيي، لو سادت تعاليم المعتزلة في هذين الأمرين - أعني سلطة العقل وحرية الإرادة - بين المسلمين من عهد المعتزلة إلى اليوم، لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التواكل"، فهل سيستدعي المسلمون فكر المعتزلة للمساهمة في تجاوز أزمتهم الحضارية؟