الكاتب: فراس ابو شمعه
مراجعه لكتاب سقوط الجدار السابع
الشق الاول من العنوان هو سقوط الجدار السابع .الرقم سبعة رقم ذو دلالات متعددة ويحمل في طياته الكثير من المعاني . يا هل ترى ما هي الدوافع النفسية, العاطفية ,الفكرية والوجودية وما هي الرغبة والحاجة التي وقفت وراء هدا الاختيار. في الشق الثاني من العنوان يختار الكاتب مفردات الصراع النفسي والأدب. استوقفني كثيرا هدا العنوان. الشعور الاولي الذي يتبادر الى ذهني ويطفو الى وعيي هو الخوف المصبوغ بالهلع . ذاك الخوف المستقصى والمستبعد في منفى اللاواعي السفلي. غريزة الموت تستيقظ من سباتها تتمرد على حراس معبد الكبت تفقني من سهوي وتقطع علي متعتي, تذكرني بمصيري وحتميتي. اصوات اخرى تجتاحني , فصوت يقول لا تنصت لها استبعدها , ارجعها من حيث اتت فمجرد محاولة التفكير فيها يدخلك في غياهب ألا معلوم تفقد بوصلتك. صوت يقول لي اخاف عليك من التفكك والانهيار النفسي اخشى ان تفقد عقلك وتضحى مقيما دائم في مصحة للأمراض العقلية. وصوت اخر يدعوني للصمت ويحاول اشعاري باني التف على مجتمعي وتراثي وتاريخي واسعى لهدمه وتفكيكه.
من اين لي هذي الجوقة من الاصوات المرعبة والمخيفة وكأنها بدأت تتحسس نزعتي بالتحرر من قبضتها وتوقي لتكسير قيودها. هدأ خوفي بدأ البناء بالبزوغ في نفسي الشيء الذي يمكنني من فهم مغزى الهدم. فالبناء لا يمكن ان يتم بدون هدم ودافع الحياة لا يمكن ان يخرج الى حيز الوجود بدون سبر غور الموت والجانب المظلم في الإنسان وكما يقول شوبنهور لا يمكن ان نشعر بمعنى الحياة بدون تقبل فكرة ألموت. خوفنا الكهان ووكلاء الله على الارض من الخروج من تحت عباءتهم وأرادوا ايهامنا بان هنالك جواب لكل سؤال في جعبتهم ولوحهم المحفوظ. انشئوا في وعينا احزمه امنية وفصلونا بأسلاك شائكة تمنعنا من الوصول الينا وسبر اغوارنا. ارادونا اطفال مطيعين خاضعين مستجيبين . ارادوا حبس الحياة فينا ولكن الحياة عصية عن ان تحبس والذوات لا يمكن ان تقبع في سجن ابدي.
حسين البرغوثي يخرق جدار الصمت ويهدم اسوار الوعي الزائف. انه وريث ادم الّذي لم يأبه بالجنة الخالدة ولم يرضى بالنعيم اللامتناهي, فقرر وبمبادرة حواء ان يتذوق شجرة المعرفة غير ابه بما يترتب على ذلك وغير مكترث باستبعاده من جنة عدن وجناح النعيم السابع فنزل بعنفوان وإرادة الى الارض. ففي اللحظة التي يستيقظ فيها دافع المعرفه تدب الحياة في عروق النفس البشرية. يصبح من الممكن تطوير ادوات ووسائل لمغادرة مناطق اللذة الجنينية المطلقة وتقبل الواقع ومحاولة السير في صيرورته والتعامل مع تناقضاته كاللذة والألم, الحزن والفرح القوى والضعف, الداخلي والخارجي والذاتي والموضوعي... الخ
حسين الكائن العارف ينبهنا بان القرار بترك العرش العاجي والخروج من حالة الامتزاج والالتصاق بالأم أي الخروج من رحم حواء ومغادرة حماية الاب المطلقة يستوجب علينا الكد والجد والعمل الدؤوب اللامتناهي. يعلمنا بان الوجود هو صراع لا منتهي رافق الانسان منذ نعومة اظافره ومنذ اللحظة الاولى التي اشبع فيها احتياجات البقاء الحيوانية وارتقى وتطور الى كائن بشري وتطورت لديه النزعة للسير بخطى متقدمة نحو احتياجات اكثر تعقيدا وتقدما فأضحى ما يعرف بالمدنية والحضارة.
في مرحلة التحول من الذات الغريزية الى الذات الانسانية توجب على الانسان ضبط غرائزه وبدون ذلك لا يمكن ان يقبل الانسان كعضو في المجتمع الانساني. . فانقطع حبل التواصل الجنيني مع الارض(الام) وضحى الانسان بالاختلاط والامتزاج مع هذه الكينونة كلية القدرة. منذ ذلك الوقت بدا الانسان بتنظيم غرائزه وأوجد سلطات رقابه داخلية وخارجية وتطور لدينا ما يدعى بالانا العليا وسلطة الرقابة والضمير وذاك هو البذر الذي تشكلت منه الأديان
الفلسفات , القوانين والمعتقدات ألمختلفة.
في كتابه المدنية والتعاسة يقول فرويد ان الصراع الذي يعاني منه الانسان نابع من كونه مجبور على تجاوز حدود المتعة الى عالم الحقيقة الشيء الذي يتولد عنه معاناة وألام ازليه. فالأمراض النفسية وأنواع الادمان المختلفة هي التحصيل الحاصل والنتيجة الحتمية لهذه المعاناة. الحضارة الانسانية سعت ومنذ البداية الى تنظيم العلاقات ما بين افردها وذلك من خلال تنظيم المتعة التي من الممكن الحصول عليها. الجزء الاكبر من الحضارة الانسانية يتمركز حول ادارة اقتصاد اللبيدو او طاقة الحياة وكذلك التحكم بالغرائز والدوافع مما يعني ان على الشخص تأجيل اشباع بعض من هذه الدوافع والرغبات.
تنظيم العلاقات بين الناس يمنع الشعور المطلق بالسعادة ويبقي الباب مفتوحا للألم والمعاناة والصراعات ألنفسية العاطفية والوجودية. فيتعذر علينا ايجاد اجابه لكل سؤال يتبادر الى ذهننا والوصول الى حل لكل عثرة او مشكله نوجهها ونبقى نبحث عن حلول للألغاز والأحجيات التي تعترضنا وكلما سرنا في هذا الطريق كلما توسعت مداركنا وصقلت قدرتنا على احتواء الواقع والتعامل معه بطريقه تجعلنا جزا من صنعه ويحررنا من الوقوع في براثن عبوديته. فكلما سرنا في ركب الارتقاء والتطور الانساني ازدادت قناعاتنا بأننا لا نعرف وتنشطت حوافزنا للبحث والاستكشاف. يقول حسين في نهاية كتابه لا تبحث عن حلول في هذا الكتاب -لا توجد حلول فيه. ان الانسان الحديث بشكل عام لا توجد حلول لديه.
يختار حسين الادب كمركب اساسي في تطور الانسان وارتقاءه ويسلط الضوء على الصراع النفسي الذي رافق ويرافق الانسان في صيرورة لا منتهيه واصفا اياه بالتاريخ الروحي للإنسانية أي تاريخ سعادتها وشقائها. بحيث يقول بأنني احاول تتبع الادب من تاريخ الشقاء الجنيني في العصور الحجرية الى الشقاء المطلق في عصر الرأسمالية. يولج ظلمات الذات البشرية يستشعر المها ومعاناتها . ينصب على ذاته يدير ظهره لنمط الواضح والمألوف ويحول اهتمامه وطاقته الانسانية للبحث العميق السرمدي. يختار حسين الادب كوسيلة معبرة واقرب الى خبرة الانسان ومشاعره. الادب يتميز عن غيره من العلوم التي حاولت فهم الانسان بأنه نوع من التفكير والتأمل يستقي معرفته من الغرائز والدوافع البدائية مما يمكن الفنان او الاديب من الاتصال بعمليات التفكير الاولية والتي تختلف عن التفكير العقلاني الخاضع لقوانين الواقع ورقابة السلطة الداخلية والخارجية
النصوص الأدبية تنبع من عالم الخيال والعمليات الفكرية البدائية الشيء الذي يمكن الطاقة الغريزية من التدفق بشكل حر .غياب سلطة الرقابة تمكن الكاتب من الاتصال برغباته المكبوتة والمستبعدة الشيء الذي يجعل النص الادبي اقرب الى القلب وأكثر تعبيرا عن الذات. أرنست جونز يشبه الادب بلعب الاطفال , التخيل والحلم التشابه بينهما هو ان في جميعهن فرق عن الواقع ألحقيقي الشيء الذي يجعل من الممكن اشباع رغبات واعية وغير واعية والتي خيبت ولم تشبع في الواقع. الادباء يغروا القارئ بأنهم يوفرون له حاله يستطيع من خلالها اشباع رغباته بدون ان يشعر بالذنب او الخجل.
يسير حسين في بحر خياله في محاولة لاستكشاف صيرورة وغاية الوجود البشري. يصحبنا برحلة الى أصقاع شعوب أعراق اديان وحضارات مختلقة .اثناء قراءة الكتاب ادركت حسين هو ابن البشرية عايش ازمنة مختلفة وارتحل ما بين القارات. في معالجته للتجربة الإنسانية ومن خلال الحديث عن نتاجها الادبي يحاول طرح سؤال عن كيفية تشكل المجموعة البشرية بأطوارها الاجتماعية المختلفة وما هي الروابط التي تنظم العلاقات بين افرادها.
يجيب حسين على ذلك بان هنالك سبب رئيسي تتفق عليه المجموعة البشرية وهذا السبب هو الذي يحدد القيم والمعايير الاخلاقية والمنطق بين افراد المجموعة بما يتناسب مع المرحلة التاريخية التي تمر بها. فلذلك السبب الرئيس هو انعكاسا للعلاقات الاجتماعية المعقدة في مرحلة تاريخية معينة. السبب الرئيسي ليس حقيقة موضوعية مطلقة بل هو حقيقة ذاتيه قابلة للتغيير والتعديل حسب المعطيات التاريخية والاجتماعية.
هنالك من يعتقد بسبب رئيسي ديني توحيدي ومن يؤمن بسب ديني طبيعي وهنالك من يعتقد ان السبب الرئيسي يتمثل بالشيوعية او الرأسمالية او العبثية والفوضوية وهكذا دواليك. يتتبع حسين ومن خلال كتابه الشخصيات التي هدمت جدرانها الموروثة فيقول سنركز في هذا البحث على هؤلاء الذين يتبعون قول ديكارت انا افكر اذن انا موجود ويستدرج قائلا هؤلاء هم النماذج الحقيقة المبدعة اما البقية فليسوا إلا معتدلين والاعتدال وبال ولا يكون مع الاعتدال إلا دوام الحال.
يحول الكاتب تحليل شبكة العلاقات الانسانية وعلاقة الفرد بذاته وبالمجموع. يسلط الضوء على صفة ملازمة للكائن البشري ألا وهي اعتماده على الاخرين واحتياجه لهم. فيقول ان الحاجة ترتبط بشقين الاول داخلي والثاني خارجي. الشق الداخلي يتمثل بالاحتياج والنقص وهناك حاجة دائمة لإشباعه من خلال الموضوع الخارجي أي الاخر الانساني. فيسمي الموضوع الداخلي بالرغبات والأخر الانساني موضع الرغبة. ومن خلال هذه الصيرورة من الممكن أنسنة الكائن الغرائزي وتحويله الى جزا من المجتمع البشري والأشخاص الذين يفشلون بهذه الصيرورة وبشكل مطلق ينتهي بهم المطاف الى التفكك النفسي (الذهان) والانفصال عن الواقع والتفكك العضوي أي الموت ووضع حد للحياة.
نعود الى حسين فهو يقول عندما تنفصل الرغبات عن مواضيعها يصاب الانسان بالإحباط واليأس والألم النفسي. البحث عن تحقيق تطابق بين هذين الجانبين هو الحياة على حد تعبير الكاتب . فالإنسان يمضي حياته في البحث عن تطابق كامل ما بين هذين الشقين أي تحقيق مشاعر الكلية والوصول الى السعادة المطلقة. وكأن حسين يتحدث عن الخبرة الرحمية حيث يشعر الجنين بالقدرة الكلية وكل محاولة لاسترجاع هذه الخبرة بعد قرار الطبيعة بانتهاء مرحلة الاقامة في حجرة الحياة الاولى هو ضرب من الخيال والتهيؤ .لربما ان فكرة الجنة الموعودة في الاديان المختلفة مستقاة من الحنين الى الحياة الرحمية. فلذلك امنية السعادة المطلقة من الصعب بل من المستحيل تحقيقها ,الشيء الذي يجعل التعاسة والألم والشقاء المصير الحتمي للبشرية حسبما يرى الكاتب. يحاول حسين بحث ذلك من خلال الأدب كإرث روحي ونفسي للبشرية.
يبحث الشقاء في فلسفة سكوفرودوا ثم في التصوف البوذي البرهماني ,الطاوي والإسلامي وبعد ذلك ينتقل للحديث عن الادب في الجاهلية ثم المتنبي ومظفر النواب بعده ينتقل للأدب الانجليزي وبالذات لشكسبير ثم لدوستويفسكي الادب الروسي ثم السريالية والدادية في الادب الفرنسي بعده لسرح اللامعقول عند الكاتب الايرلندي صموئيل بيكيت. القاسم المشترك بين الاعمال الفنية والشخصيات الادبية سابقة الذكر هو انعدام الكلية وعدم الوصول الى السعادة.
يرى حسين ان طريق سكوفوردوا في البحث عن الكلية طريق رجعيه لأنه تنازل عن رغباته لصعوبة تحقيقها ووهم نفسه بسعادة زائفة لتجنب الالم والمعاناة وبذلك يخدع نفسه ويتنازل عن انسانيته.اما البرهمنيين ومن خلال سعيهم لتحقيق الكلية والسعادة المطلقة وصلوا الى قناعة مفادها ان سبب الشقاء ليس البحث عن حل للتناقض بين الاحتياجات الداخلية والمواضيع لخارجية وإنما هذا التناقض بعينه هو سبب الشقاء; فلذلك يتوجب على الفرد التخلي عن عيش الحياة وان يسعى لدمج نفسه في الروح الكونية أي البر همانا (الام) لكي يتمكن من الانعتاق من دورة الحياة المليئة بالألم والإحباط. . وبوذا ذهب الى ابعد من ذلك واقنع نفسه بعدم جدوى الحياة ووصل الى حالة النير فانا أي العدم فقرر الانتحار كمخرج للانعتاق من الدنيا وآلامها. فبدل الوصول الى السعادة المطلقة وصل الى العدم. اما الطاويين فالسبب الرئيسي لديهم هو الطاو , الطبيعة بجبالها وأوديتها , فأرادوا الاتحاد بالطبيعة التي هي سببهم الرئيسي وكانت وصيتهم ان لا يعمل الانسان شيئا وان يعيش في الطبيعة فمن اجل تحقيق السعادة المطلقة هجروا مدنهم وقراهم.
اما التصوف الاسلامي فقد حاول تحقيق الكمال من خلال الاتحاد مع الذات الالهية وذلك من خلال صيرورة يتخلى فيها المرء عن ابليس في داخله ومن ثم يتصل بالرسل بالملائكة وفي اعلى الهرم يتحد بالله فيتحد بالخير ويصل الى حالة الخلاص من الالم والمعاناة فلذلك ينسحب الصوفيين من عالم الواقع وينتقلون الى عالم خيالي. ومشاعر الصوفيين في لحظة اتحادهم مع الذات الالهية تشبه الى حد كبير الهلاوس والتهيؤات المصاحبه للمرض النفسي. فالرغبة بالاتحاد مع الذات الالهية تنجم عن توق وحنين ال ذات كلية القدرة خالية من الشوائب والغرائز والتي من الممكن التماهي معها . وفي ذلك اسقاط واضح لما يدور في داخل الفرد من مشاعر رفض لأجزائه السلبية والغير مقبولة . يتضح ان الذوات التي كانت من المفترض ان تقوم بالرعاية والعناية في بداية حياة هؤلاء الاشخاص لم تكن متوائمة مع احتياجاتهم; الشيء الذي جعلهم يشعرون بان مشاعرهم سلبية ومبالغ فيها, فإنكار هذه المشاعر والانفصال عنها يخفف من حده الالم الذي لا يمكن مواجهته والتخلص منه بدون ذات كلية القدرة كما الله او شخص بمواصفات الهية خارقة للطبيعة البشرية.
لقد ركز الكاتب فيما سبق عرضه على الكلية بواسطة الانسحاب من العالم الخارجي الى داخل هؤلاء الأشخاص. اضافة الى ذلك تحدث حسين عن اشخاص رفضوا طريقة الانسحاب وقرروا المواجهة. المعاناة هي نصيب هؤلاء. المعاناة هي شكل من اشكال انعدام الكلية . الذي ينتج من كون تحقيق التطابق بين العالم الداخلي والخارجي غير ممكن وغالبا ما تتميز المعاناة بالسعي وراء ارواء حاجة جوهرية بالنسبة للفرد مع الفشل المتواصل لتحقيقه. للمعاناة النفسية شقان:
لكل شخص تصور عن نفسه كما هي عليه في الواقع وكما يجب ان تكون. أي هناك تناقض بين النفس الواقعية والمثالية. مما ينتج عنه عدم القدرة على تحقيق الكلية. ان المعاناة هنا تنتج من ذلك التصور المظلم لواقعه الفردي وعزلته المطبقة واقعه غابة من الظلمات ولا امل لديه في تجاوزه لتحقيق الانا المثالية للعيش كما يريد.اما الشكل الثاني للمعاناة فهو التناقض التناحري في داخل فكرة الغير , فكرة الغير تتكون من شقين الاول هو الغير كما هو والثاني هو الغير كما يجب ان يكون ومن الواضح ان فكرة الغير هي الوجه الاخر لفكرة الذات. يتناول حسين الشعر الجاهلي ويسلط الضوء على المراحل التطورية التي مر بها المجتمع العربي والتفسخ الداخلي في المبنى القبلي وانقسام المجتمع الى طبقة اسياد وعبيد; الشيء الذي القى بضلاله على الشعر الجاهلي فتزعزعت العصبية القبلية ورابطة الدم والتي كانت تمثل السبب الرئيسي في العصر الوثني. فمن هنا تناولت المعلقات موضوع الوحدة واللاوحدة الشيء الذي يتجسد في معلقات زهير ابن سلمى وعنترة ابن شداد اما التعبير عن اللاوحدة فيتمثل في شعر الصعاليك ولعل ابرز مثال على ذلك هو الشاعر عروة ابن الورد.
فسبب معاناة عنترة يتمثل في انحداره من اسرة اسياد فيشعر بالانتماء للقبيلة ولكن امه سوداء أي انها منحدرة من طبقة ادنى في الهرم الاجتماعي. فأصول امه ولون بشره الذي ورثه منها يجعلان شعوره بعدم الانتماء متجذر فيه وهذا هو التمزق ما بين الوحدة واللاوحدة. يؤثر عنترة من خلال معلقاته الوحدة ويتغلب على شعور اللاوحدة الشيء الذي يعطيه توازنا نفسيا مع الواقع, يتضح ان ذلك فيه شيء من خداع الذات اما شعر الصعاليك فلقد احدث قطيعة مطلقة مع السبب الرئيسي أي العصبية القبلية ورابطة الدم وأضحت معاناة الانسان فردية ومع ظهور الاسلام تبدل السبب الرئيسي وأصبح الله.
ولكن تستمر معاناة الانسان في العصر الاسلامي ويتبدل السبب الرئيسي لديه الشيء الذي نلمسه مع المتنبي فالسبب الرئيسي لديه هو الذات .تتجسد معاناة المتنبي بكونه يتذبذب بين ذاته الحقيقة والظاهرة . تبدل السبب الرئيسي وديمومة الالم والمعاناة مستمرة. السبب الرئيسي في جميع العصور اما ان يكون ميتافيزيقا ألله البرهمانيا او طبيعيا الطاوية او اجتماعية . مثل ألشيوعية
في مرحلة معينة ينهار السبب الرئيسي حيث ان مظفر النواب وصل الى مرحلة بحيث لا يستطيع الايمان بأي سبب رئيسي. هذا ينجم عنه هزة ارضية في فهم الحياة . هذه المرحلة هي مرحلة التمزق النفسي بحيث يصل التمزق الى عدم الايمان الثابت بأي شي. يقول حسين بان التمزق يواصل زحفه وانعدام الكلية يواصل تقدمه. وكذلك هاملت لا يجد لديه سبب رئيسي يؤمن به الشيء الذي يجعله يعيش حياة مترددة ولا يستطيع ان يأخذ قرارا حاسما بين بقائه في الحياة او مغادرتها .
يقول حسين عندما ينهار السبب الرئيسي يصبح هنالك خوفا من الحرية لأنه يقع على الفرد مسؤولية الاختيار. جوهر الحرية هو تحطيم ذاته السابقة وعند التنازل عن السبب الرئيسي تنهار منظومة الاخلاق لدى الفرد ويتوجب عليه بناء منظومة خاصة به فالحرية تشتمل على تدمير الذات او بناءه. يقول اريك فروم في كتابه " الخوف من ألحرية" ان انهيار الكنيسة في اوروبا في اعقاب الثورة اللوثرية والكالفنيه احدث فراغ مخيف لدى الاوروبيين وجعلهم يبحثون عن سلطة قوية تمثلت النازية والفاشية.
يقول حسين عند سقوط السبب الرئيسي ينطلق الانسان باتجاه الحرية بكامل رعبها يجعل محاولة السيطرة على العالم بالعقل والمنطق والتحليل العقلي , العقلنة باختصار تتخذ طابعا متطرفا, عندما تتحول الحياة الى مسالة رياضية مجردة يحاول الفرد حلها بكمبيوتر العقل
عند هذه المرحلة العقلية تنعدم العلاقة العاطفية بين الفرد والأشياء او بينه وبين البشر مما يولد انانية مفرطة او صحراء نفسية والعقلنة تقود بالتالي الى انحسار الرغبات العاطفية أي الى انكار جزء كبير من الانا الحقيقة مما يولد فقدان الصلة بالحياة كما تعاش واقعيا. هده الحالة يعرضها دوستويفسكي في قصة الممسوسون.
الانسان وحسب وصف حسين يزداد تمزقه واغترابه في هذه المرحلة وعندما يفشل في السيطرة على تناقضاته يظهر الجنس والشهوة كمخرج من المأزق النفسي كما هي الحال عند مظفر النواب وديمتري كرامازوف كما يعرضه ديستويفسكي. المخرج الاخر هو التفكك والمرض النفسي. وهذا لسان حال السرياليين والداديين فلم يكونوا يمتلكون سبب رئيسي وفهم الحياة لديهم منهار . يشعرون بالجزئية ولا يحاولون الاقتراب من حدود الكلية. فقرروا العيش فوق الواقع في القارة الاوروبية التي كان يسودها القتل والحرب والدمار.
في النهاية يتناول الكاتب حسين البرغوثي النفس البشرية بمراحلها التطورية المختلفة. ففي البداية بحث الانسان عن كلية وتطابق بين احتياجاته ورغباته الداخلية والمواضيع الخارجية وذلك من اجل الوصول الى السعادة المطلقة والتي تجنبه الالم والمعاناة الناجمة عن قسوة ة الفراق والانفصال . الكمال والسعادة المطلقة ليس من الممكن تحقيقها بدون وجود سبب رئيسي يرتكز اليه . في هذه المرحلة السبب الرئيسي كان موجود خارج الانسان . القلق الذي واجه الانسان في هذه المرحلة هو قلق التفكك والاندثار. للتعامل مع هذا القلق طور الإنسان اساليب نفسية واليات دفاعية بدائية وأولية مثل الانكار الانفصال ,التعظيم , الاسقاط ورؤية الواقع اما اسود او ابيض. الأنسان يشعر بأنه مراقب ومستهدف من القوى الخارجية سواء كانوا بشر او الهة او قوى طبيعة وبأنه دوما عرضه للانتقام المرض الذي يطلق عليه برانويا.
مثل هذه الاليات والعمليات النفسية نجدها لدى الأطفال ,المجتمعات البدائية والأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسيه مثل هذه الحالات قد يؤدي بالشخص الى الانسحاب من الحياة الانطواء ولربما يصل به ذلك الى حد الانتحار. انتحار بوذي يشبه الى حد كبير انتحار الشخص الاكتئابي الماني او الاكتئابي العيادي. وكذلك انطواء الصوفيين وانسحاب البرهمانيين يشبه الى حد كبير انسحاب الذهاني وانطواء العصابي .
في المرحلة اللاحقة تقدم الانسان خطوة في السلم البشري والإنساني ووضع موضوع السبب الرئيسي على المحك. فبدا بتقبل الانفصال وفقدان الوحدة مع جسد الام والطبيعة وتنازل عن شغفه بالوصول الى السعادة المطلقة. وكأن الانسان قد تجاوز المرحلة الذهانية الجمعية ولم يعد قلق التفكك والاندثار طاغي عليه وتولد لديه قلق فقدان الانسان وبالتالي فقدان ذاته. وللتعامل مع هدا القلق طور الانسان الية الشعور بالذنب ,فالصراع انتقل الى صراع ما بين الذات الحقيقة والذات المتخيلة على الصعيد الداخلي ,الذات الحقيقية والذات الظاهرة على الصعيد الخارجي. وينيكوت اطلق على ذلك اصطلاح الذات الحقيقية والذات الزائفة . الشيء المثير للاهتمام في ذلك هو ان هذا الصراع يدلل على وجود نواة نوات ذات تنتظر الدافع والمحفز لكي تخرج الى حيز الوجود. لا شك بان الانسان عايش مرحلة اكتئابية ممثلة بمعاناة عنترة وهملت
بعد ذلك تقدم الانسان خطوة اخرى باتجاه الانفصال والحرية. هذه الخطوة ليست بالسهلة وربما طورت لدى بعض الاشخاص شخصيات سيكوباثية او غير اجتماعية والشخصية الغير اجتماعية تصرخ المها من خلال فعل الاشياء وليس بالحديث والتعبير غنها الشيء الذي رأيناه لدى الصعاليك ودمتري , فالسلطة العليا التي عانى الانسان طويلا للعودة اليها اصبحت خانقه وأحس الانسان بالرغبة للتخلص منها فتفككت المعايير السابقة وسار الانسان باتجاه الحرية فظهر السرياليين والداديين وما زال العالم يجري وليس لأحد القدرة على ايقافه او معرفة الى اين سيصل.