بقلم: مهند أبوشمة
عادة ما يتم إخضاع الحروب فور توقفها لتدقيق المراقبين والمحللين فيما آلت إليه النتائج، إذ يبدأ المحللون والمتبارون بالإدلاء بوجهات نظرهم؛ بتباينات تتراوح ما بين مؤيد، ومعارض، وساخطٍ، ومتهمٍ، وربما مأجور يحرف الأنظار عن ما تحقق؛ دون تمحيص وتدقيق في عمق النتائج؛ هي حالة ترافق كل حرب.
الحال ذاته ينطبق على ما نشهده حاليا من حوارات حول المواجهة الأخيرة في قطاع غزة، والتي شكلّت فيها تجربة صمود المقاومة وسرعتها في الرد، وقدرتها على الردع والتحكم في حياة الكيان الصهيوني الواهن في حرب "سيف القدس"؛ أكبر انتصار؛ لا للمقاومة وحدها في غزة، بل للضمير الفلسطيني والعربي والإسلامي، وللأجيال الشابة ممن كان هناك رهان على محو فلسطين من ذاكرة أفرادها، وهو انتصار لفلسطين التاريخية من نهرها إلى بحرها، وانتصار لوعي الشعوب العربية والإسلامية والعالم، بل هو انتصار للحقيقة المغيبة من سنوات بأن هناك فلسطين.. كذا كانت تسمى، وصارت تسمى فلسطين، وكذا سيبقى اسمها فلسطين؛ وهو انتصار لشبابنا الواعدين ممن أظهروا تفاعلاً ومشاركة غير مسبوقة، ليتكشف أن مقولة:"الأجداد يموتون والأحفاد ينسون" أوهن من بيت العنكبوت، بعد أن جاءت إشارات تلاشي تلك المقولة من القدس، وتحديدا من باحات الأقصى وحي الشيخ جراح، ثم عبر ردّ مزلزل من حي الشيخ رضوان .
المطلوب من الفلسطينيين ألا يستعجلوا أمرهم، فنتائج حرب " سيف القدس" بمثابة مبشرات للنصر القادم بإذن الله، تحمل معها ملامح مقدمات قيام الدولة الفلسطينية وزوال الغاصب المحتل، بعد أن حاول العالم والغرب والمتخاذلون من العرب رسم صورة للكيان الصهيوني بأنه أسطورة، وجيش لا يُقهر، ومارسوا كل أشكال العهر والنفاق والتخاذل لتثبيت كيانٍ سرعان ما تبدّت هشاشة عظامه، بعد أن وجهّت المقاومة وهبة شعبنا الفلسطيني في فلسطين كلها-من نهرها لبحرها، ومن صفد حتى رفح، والشعوب العربية في دول المحيط- رسالة لكل المطبعين المتساقطين المتهاوين في مستنقع الخيانة والتآمر بأن فلسطين بإرادتها ووحدة شعبها وأرضها لن تنتظر المؤازرة إلا من الشرفاء الأحرار أينما كانوا، وما عداهم خاسرون شرفهم ولكرامتهم ولأنفسهم .
فالقدس بمقدساتها وبأحيائها أرض الإسراء والمعراج؛ لا تقبل التنازل والتخاذل بهمة المرابطين فيها إلى يوم الدين؛ مهما حاول المحتل طمس هويتها، ومهما حاول فرض وقائع جديدة على الأرض، فالرواية الفلسطينية ثابتة عصيّة على الطمس، وهو ما أكدته مآلات المواجهة من أن فلسطين كلها اليوم للكل الفلسطيني، بعد أن تجذّر في فكر الأجيال الناشئة ووجدانها بفعل هذه الحرب؛ حقيقة واحدة ووحيدة متمثلة في أن فلسطين لا تقبل القسمة، أو التآمر والخذلان، فلن ينسى أطفالنا المجازر البشعة التي ارتكبها المحتل الغاصب، ولن يغفروا مهما طال الزمن جرائم الحرب الصهيونية ما بين قتل للأطفال وهدمٍ للبيوت وتنكيل بالأحياء والأموات، كما أنها أجيال لن تنسى حقيقة إسرائيل المهزومة؛ المرتبكة؛ المستجدية، ولن تنسى من خذلوا فلسطين من ساسة وسماسرة.
لقد كسرت فلسطين قواعد اللعبة كلها، وفاقت كل الرهانات، ما يستوجب استثمار كل مقومات وإشارات النصر، منطلقين من أن وحدتنا سر قوتنا، وعدونا المهزوم لن يصمد أمام الحق والحقيقة أن فلسطين للفلسطينيين، والكيان الغاصب لن يعمّر بعد اليوم طويلاً، فقد هُزم معنوياً ونفسياً وسياسياً .، فقد باتت عبارة " "قُصفت "تل أبيب"؛ لازمة يرددها أطفالنا عشرات المرات يومياً، وكأن لسان حالهم يقول: الأسطورة ..انكسرت وهُزمت.
لقد رسخت صواريخ المقاومة مفاهيم جديدة في المقاومة الإعلامية التي انتشرت ونشرت عالمياً، بالتوازي مع مقاومة اقتصادية عبر مقاطعة المنتجات الصهيونية ووسم منتجات المستوطنات عالمياً، وتأكيد عبثيّة المفاوضات إذا لم تُحصّن بقوة على الأرض، ولا قوة على الأرض إلا بوحدة العمل والخطاب .
هي مواجهة حملت معها نجاح فلسطين بكامل أطيافها في كشف الوجه الحقيقي للمحتل الغاصب، وإحراج كل المنادين بالتطبيع، وتحرير العالم من قيود الرواية الصهيونية العنصرية، بعد أن أثبتت حق الفلسطينيين في أرضهم ومقدساتهم .
صحيح أن الحرب انتهت كما يقول البعض دون تثبيت شروط، أو وجود ضمانات، لكن لا شك أن الحسابات قد تغيرت ، وفي لغة الندية تكون الحسابات أقوى من الضمانات .
في المحصلّة نقول: هنيئاً لكِ فلسطين بوحدة الأرض وبوحدة الإنسان، وبوعي الأجيال، ولنردد ما قاله درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، ولنعمل سوياً وبخطىً وحدوية لترسيخ مفاهيم النصرعلى الأرض، حتى نبقي على فلسطين وتبقى راسخة، مقابل كيان سيبقى مهزوماً؛ مأزوما، حاول استغلال المواجهة لتصدير أزماته ليكتشف بحقيقة واحدة وهي أن بقاء الاحتلال هو أزمة الأزمات.