الأربعاء: 20/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

سيف القدس والنهاية الحتمية

نشر بتاريخ: 27/05/2021 ( آخر تحديث: 27/05/2021 الساعة: 12:08 )

الكاتب: طارق موقدي



على الرغم من الفارق الكبير في حجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبّدتها المقاومة الفلسطينية مقارنة مع الاحتلال، إلا أن العدو قبل الصديق اعترف وبكل وضوح أن هذه المقاومة - وعلى رأسها حركة حماس- قد انتصرت في الجولة الأخيرة من المواجهة بينها وبين الآلة العسكرية الإسرائيلية.

وعلى الرغم من أن هدف هذه المعركة هو ردع الاحتلال عن المساس بالمقدسات الفلسطينية، إلا أنها دون أدنى شك مثلت نقطة تحول غير مسبوقة في الصراع مع الاحتلال، وشكلت بداية مرحلة جديدة لها ما بعدها، وإن كانت محددة الأهداف وليست حرباً مفتوحة حتى النهاية، فإنها أسست لملامح الحرب القادمة وشكلها ، وربما الأخيرة؛ أي حرب التحرير الشاملة.
لم تكن المقاومة تسعى لتحقيق هدف بعيد المدى؛ وذلك لمحدودية ما تملكه من قدرات وإمكانات لوجستية، ولكنها أرادت في واقع الأمر، وعلى الأقل في هذه المرحلة أن ترسم نهجا جديدا لقواعد الاشتباك مستقبلا وعلى قاعدة (فإن عدتم عدنا).
ولكم أن تتخيلوا كثافة النيران التي أسقطها العدو في أحد عشر يوما من العدوان على غزة حيث كانت أكثر مما أسقطه من قذائف خلال 51 يوما من عدوان 2014، في ذلك العدوان ردت المقاومة بحولي 4 آلاف صاروخ، بينما في المعركة الأخيرة فقد استخدمت باعترافات العدو أكثر من 4400 صاروخ خلال عشرة أيام فقط.
فالكيان لم يعد قادرا على هزيمة المقاومة رغم كثافة النيران، والحمم البركانية التي صبها على بنك أهدافه الفارغ إلا من المدنيين الأطفال، والنساء، والشيوخ، ومن الأبراج السكنية، ومقار الإعلاميين،ومؤسسات حكومية ومن البنى التحتية المتواضعة لبقعة جغرافية هي الأكثر كثافة سكانية والأفقر في العالم؛ بسبب الحصار الذي مارسه الاحتلال طيلة خمسة عشر عاما، في هذه الأجواء الصعبة ورغم إغلاق الأنفاق وتقيص عمليات تهريب السلاح استطاعت المقاومة تطوير ترسانتها المحلية من الصواريخ بجهود ذاتية، والتي لم تستهلك منها – حسب التقديرات * أكثر من 30 في المائة.
هذا بحد ذاته اعتبره ساسة وعسكريون إسرائيليون بمثابة كارثة حقيقية؛ ذلك بأنه قضى على نهج الاحتلال العسكري وإستراتيجيته التي طبقتها إسرائيل منذ قيامها وخلال كل الحروب التي خاضتها ضد العرب عموما وضد الفلسطينيين تحديدا، ذلك النهج القائم على منطق القوة المفرطة، وسياسة الأرض المحروقة، وهو المنطق الذي تبنته الحركة الصهيونية وعلى أساسه قامت دولة إسرائيل.
إن فشل هذا الرهان للمرة الأولى وخضوع الكيان لوقف متبادل ومتزامن لإطلاق النار، لم يحسم المعركة لصالح المقاومة الفلسطينية فحسب، بل كسر القاعدة والمنطق الذي قامت على أساسه الدولة العبرية، وهذا ما ينبئ بسقوطها في المعركة المقبلة، والتي لن تكون بعيدة.
هذا على المستوى العملياتي، أما على المستوى المحلي، فقد رسم الفلسطيني بدمه وحدة شعبية لم يسبق أن ظهرت بهذا الوضوح وهذا النضج، فباغت الاحتلال في أكثر من موقع، خاصة تلك الشريحة من الفلسطينيين الذين صمدوا في أرضهم وبيوتهم عام 1948، واعتقد الاحتلال مخطئاً أنه نجح في ترويضهم تحت مسميات التعايش والمساواة وغيرهما، فأطلق عليهم زورا وبهتانا "عرب إسرائيل"؛ ليجردهم من فلسطينيتهم، ونشر بينهم العنف، والسلاح، والجريمة المنظمة؛ ليخلخل بنيانهم الاجتماعي، فإذ بهم وحدة واحدة موحدة ثائرة، استطاعت أن تهدم ما بناه وخطط له لعشرات السنين، وكذلك فعل المقدسيون.
أما على المستوى الإقليمي والدولي، فردود الأفعال الشعبية حملت بين طياتها رياح تغيير لصالح الفلسطينيين، فلم يسبق أن تحركت شعوب العالم في فترة وجيزة جدا بهذا الزخم مثلما حدث في الأيام القليلة الماضية، فقد خرج في "ميشغين الأمريكية" وحدها أكثر من 250 ألف متظاهر، ناهيك عن أوروبا، وأمريكيا اللاتينية، أما الجماهير العربية، فقد قدمت صفعة للمطبعين العرب، وأعادت تأكيد مركزية القضية الفلسطينية في نفس المواطن العربي ووجدانه في كل مكان.
وكالعادة تقدمت الجماهير على قياداتها، فالساسة مثل "جوالنائم" كما كان يحلو لترامب أن يسميه، صرح في الأيام الأولى من العدوان أن (لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها) لكن الإجابة عن تصريح الرئيس الأمريكي لم تتأخر كثيراً، فقد جاءت سريعة من الحزب الديمقراطي نفسه، وتحديدا من الجناح اليساري في الحزب، الذي رفع صوته عاليا أن دعم إسرائيل لا يجب أن يكون على حساب حقوق الانسان في الأراضي المحتلة، وعلى الدولة المستبدة أن توقف فورا عدوانها، مما حدا بالرئيس الديمقراطي، أن يتصل برئيس وزراء الكيان أكثر من أربع مرات، وفي المرة الأخيرة حذره، أنه إن لم يوقف الحرب فلن تستطيع الإدارة الأمريكية أن تحمي ظهر إسرائيل أمام المجتمع الدولي، وسارع وزير خارجيته بلنكن إلى القول أن "للإسرائيليين والفلسطينيين حقوق متساوية للعيش في أمان"، هذا التحول الدراماتيكي في الخطاب لم يكن ليتبلور لولا إدراك الإدارة الأمريكية أن المدلل الإسرائيلي في خطر حقيقي.
وكذلك حصل في أوروبا، ففي بداية العدوان، ردد القادة الأوروبيون نفس الأسطوانة المشروخة (لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها)، لكنهم سرعان ما تبنوا قرارا في الاتحاد الأوروبي يدعو لوقف إطلاق النار، فالشارع تحرك بشكل غير مسبوق، منددا بالعدوان وداعما للشعب الفلسطيني في حقه في الدفاع عن نفسه، بل دعت المسيرات لإنهاء الاحتلال الذي تجاوز عمره 73 عاما.
هذا التغيير الذي اجتاح العالم لم يكن وليد اللحظة، بل عبر عن انهيار للأحادية القطبية، والعولمة، والاتحادات الهشة التي بدأت مع تفشي فايروس كورونا، في نهاية العام 2019 مرورا بعام 2020 حتى اليوم، هذا الانهيار سيودى بالدول الصغيرة وخاصة تلك التي تعتمد على الدعم الخارجي بالفشل الكلي، ولما كان الكيان الصهيوني نموذجا ناجحا في النظام أحادي القطب، فإن انهيار هذا النظام سيؤدي حتما وبالتأكيد إلى انهيار الكيان على الأقل من الناحية الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، إضافة إلى الانهيار العسكري.
ولن يكون في الحرب القادمة من يتغنى بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فمن سيكون مستعدا للمغامرة بحماية مشروع استعماري فاشل سياسيا وعسكريا.
كما أن انهيار النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة سيؤدي بالضرورة إلى انهيارات اقتصادية لحلفائها في الشرق الأوسط، وخاصة ما يسمى بالمعتدلين من المطبعين وغيرهم، وهذا بدوره سيعيد مرة أخرى الحركات الإسلامية للواجهة بعد فشلها فيما تلى الربيع العربي كتجربتها في مصر، وتونس، وليبيا، وسوريا وغيرها، وربما تظهر حركات إسلامية بعيدا عن تلك الحركات التقليدية، ستحمل هذه الحركات خطابا أكثر راديكاليا تجاه الكيان الصهيوني، وهو خطاب يلبي طموح الجماهير العربية والإسلامية ويتصف بالمصداقية، مما يرفع الإسلام السياسي إلى عروش السلطة أو قريبا منها.
إن هذا التغيير سيتبنى ضمنيا الجهاد في سبيل الله- تعالى- لتحرير فلسطين والمقدسات.
علاوة على أن النظام العالمي القادم سيخلق أنظمة جديدة عربية، وغربية مستعدة لتمد يد العون وبشكل علني للمقاومة الفلسطينية، ذلك أن كثيرا من هذه الأنظمة ستجد نفسها وقد تحررت من الهيمنة الأمريكية، أو رأس المال اليهودي الداعم للكيان المتهالك، والذي تحكم لعقود طويلة في سياستها الخارجية على أقل تقدير.
إن المعركة الفاصلة ستبدؤها المقاومة الفلسطينية، فهي رأس الحربة، كانت وستظل، لكن جيوشا عربية وإسلامية لن تقف مكتوفة الأيدي كما هو الحال اليوم، ولن تكتفي هذه الدول بالشجب والاستنكار، بل ستدخل المعركة، بعد أن تكون قد ورثت ترسانة عسكرية كبيرة من الأنظمة البائدة. وهكذا فمعركة تحرير القدس لن تكون بعيدة.
لقد وصلت إسرائيل إلى أعلى ما يمكن لدولة صغيرة أن تصل إليه، لكن معركة سيف القدس، تجاوزت ذروة وجودها، وعليه فإن إسرائيل سيكون أمامها خياران أحلاهما مر، أحدهما أن يقوم قادتها بالاعتراف بالهزيمة علنا، ويغيرون من إستراتيجيتها التي قامت عليها وهي العدوان والتوسع، فتتقهقر، وتتخذ إستراتيجية دفاعية لتحافظ على ما حصلت عليه، والثاني وهو الأرجح في رأيي، والذي يقوم على إنكار الواقع والاستمرار في نفس السياسة، خاصة أن من يحكمها اليوم وفي المستقبل القريب هم قادة ذلك اليمين التوراتي الذي يعيش الماضي، ولا يعمل إلا لمصالح شخصية محضة، و"نتنياهو" أنموذجاً.
في كلتا الحالتين، ستبدأ المقاومة الفلسطينية الحرب وهي من سينهيها، لا أقول نهاية الحرب بل نهاية إسرائيل نفسها.
وهنا أود أن أختم في نقطة ذات أهمية كبرى في اعتقادي المتواضع، إن هرولة الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل في العالم لوقف إطلاق النار، وإعادة طرح ضرورة حل سياسي للقضية الفلسطينية على مبدأ "حل الدولتين" ليس حقنا للدماء كما يدعون، بل منعا أو تجنبا للانهيار القادم لا محالة؛ ذلك أن الحلول المطروحة في أقصى واقعيتها، طبقا للقرارات والأعراف الدولية تطرح دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، هذا الطرح لم يعد صالحا بعد نتائج المعركة الأخيرة؛ لأن فلسطين من النهر إلى البحر لا يمكن أن تتسع لدولتين، بل دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الموحدة، قد تتضمن مواطنين يهود متواضعي العدد لهم من يمثلهم في البرلمان الفلسطيني العتيد، دولة تعددية لكل مواطنيها، بغض النظر عن عرقهم ولون بشرتهم ودينهم، دون قانون للقومية أو يهودية الدولة كما يطالبون.