الكاتب: عصام بكر
من السابق لاوانه بل من المبكر الان الذهاب لرفع سقف التوقعات ازاء مجريات الامور، والى اين يمكن ان تصل المتغيرات في الساحة الاميركية على ضوء المواقف التي برزت خلال الحرب العدوانية الاخيرة على قطاع غزة بعد انفجارها بسبب سياسات الاحتلال في القدس المحتلة، واستهداف الاحياء العربية فيها في الشيخ جراح، وبطن الهوى، وسلوان، ولم تكن التحركات الاميركية بما فيها زيارة وزير الخارجية انتوني بلنكين للمنطقة الا وليدة ما جرى، والضغط الذي عاشته دولة الاحتلال بعد انفجار الاوضاع، والخشية من خروج الامور عن السيطرة، وانفلاتها بالكامل بعد امتداد المواجهات للداخل بعد الضفة الغربية، وايضا الحراك الشعبي في دول الجوار التي شهدت زحفا بشريا بات ينذر بامكانية الوصول للسيناريو الاسوء على المنطقة برمتها، لتأتي زيارة بلنكين التي لا تعكس بالتأكيد تعديلا في الموقف الاميركي المنحاز بان اصبح بين ليلة، وضحاها الى جانب الفلسطينيين او ان امريكا قد تخلت عن دعمها اللامحدود لدولة الاحتلال، لصالح تفوقها، والحفاظ على(امنها) ولن نشهد على المدى المنظور على الاقل تغيرا دراماتيكيا في الموقف الاميركي اي لن تتحول لحليف لنا، ولن تقع فجاة في غرام الشعب الفلسطيني مرة واحدة .
لكن انتهاء الفترة الاكثر سوادا، وعداء للشعب الفلسطيني بعد ازاحة ترمب عن الحكم، وقدوم بايدن للبيت الابيض مثل تغيرا هاما، وان لم يكن بالمستوى المطلوب، ومن السابق لاوانه الحديث عن احراز تقدم بوجود ارضية قابلة للتعاطي مع الشأن الفلسطيني من منظور مختلف عن الادارة السابقة التي بنت موقفها على تعميق تحالف اليمين المحافظ مع الحركة الصهيونية لادامة، واشعال المزيد من بؤر التوتر، والصراع في العالم، وخلقت مناخا متوترا طيلة فترة وجود ترمب بل انها هددت بعودة الحرب الباردة، والتوتر والصراعات على اوسع ابوابها اضافة لازمات اقتصادية تواجه ادارة بادين اليوم هذه التحديات الدولية مع الصين وروسيا، ومناطق عديدة اخرى حتى مع الاتحاد الاوروبي ما زالت مستمرة واثارها واضحة .
ولمحاولة ايجاد مقاربة بهذا الخصوص لابد لنا من رصد سريع للعديد من القضايا الجوهرية التي تتمسك بها الادارة الحالية اسوة بمجمل مواقف الادارات السابقة سواء كانت من الحزب الجمهوري او الديمقراطي فهي اي ادارة بايدن ابقت على قرارات ادارة ترمب، وعدم قابلية التراجع عنها فيما يتعلق بالقدس، والاعتراف بها، ونقل سفارة الولايات المتحدة اليها، ثم جملة القرارات السابقة بما فيها اغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وتجفيف مساهمة الولايات المتحدة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "اونروا " وغيرها من المواقف المتشددة، وان برزت امكانية لمناقشة بعض هذه القضايا في العهد الجديد الا ان القائم فعلا يؤكد الابقاء على ذات الطريق رغم الحديث عن تغيرات طفيفة من امكانية فتح القنصلية الاميركية في القدس الشرقية، وهي لن تنطلي على احد عاقل في ظل الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لاسرائيل اي ان مرجعية القنصيلة على فرض اعادة افتتاحها فعلا ستكون السفارة في القدس، وايضا رغم الحديث عن امكانية فتح المكتب في واشنطن، واستئناف المساعدات الاميركية للسلطة الفلسطينية، والحديث عن انعاش الامال بامكانية فتح مسار سياسي جديد بعد انسداد افق العملية السياسية لسنوات، وتوقف المفاوضات بسبب سياسات الاحتلال بينما فعليا تكثف الاستيطان الاستعماري ملتهما المزيد من ارض الضفة الغربية بما فيها في القدس لتكريس الامر الواقع .
وبعيدا عن البحث في المقارنات بين مواقف الادارات السابقة، ومع وجود مؤشرات على ان تغيرا قد حصل فعلا كما ذكر سابقا بعد صعود بايدن الا ان الماثل امامنا لا يزال بعيد كل البعد عن امكانية وصول الموقف الاميركي لخطوة جادة في انهاء الصراع على اساس قرارات الشرعية الدولية فالسياسة الخارجية للولايات المتحدة التي تقوم على اشعال الحرائق ثم العمل على التدخل لاخمادها هي ذاتها، والفرق البسيط ان ترمب كان يستخدم العصا الغليظة بشكل مباشر وفج، ومتناهي في الغطرسة بينما بايدن يستخدم القوة "الناعمة" وبيع الوهم، والحديث اللين مع الاحتفاظ بذات النهج، والسير على ذات الخطى مستخدما فخ الاغراء بالتقدم الاقتصادي، وهو جوهر صفقة القرن التي تقدم بها سلفه، وتقوم على تقويض الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، واستبدالها بتحسين شروط الحياة المعيشية، وضخ اموال لبعض المشاريع تمهيدا لانعاش الوضع الاقتصادي المترنح الذي عانى طويلا، وتفاقم بشكل كبير مخلفا ازمات جديدة ظهرت بعد انتشار فيروس كورونا اي باختصار امام مجمل هذه الحالة بتشعباتها الابقاء على الاحتلال، وفرض التعايش في ظله باعتباره أمر واقع، والاعتراف بكل اجراءاته على الارض بما فيها المستوطنات التي يتنافى وجودها بشكل كامل مع القانون الدولي بل تعد بموجبه جريمة حرب، ولا يعترف العالم بشرعيتها، والادارة الاميركية تريد بهذا الواقع الابقاء عليها ضمن بحث مستقبلي للصراع (مؤجل)، وتخضع لنتائج المفاوضات التي ستكون فارغة من مضمونها، وكانت طوال السنوات السابقة (ملهاة) دفع الشعب الفلسطيني خلالها ثمنا باهضا لا داعي هنا الان باعتقادي للاسهاب في تفصيل الامر فالوقائع على الارض تتحدث عن نفسها بنفسها .
امام هذه الصورة، وبعد الحرب العدوانية على غزة، وما يجري في القدس، والضفة الغربية والداخل يطرح السؤال المباشر نفسه، ويتمحور حول كيفية الاستفادة من المواقف الدولية التي شهدت حالة تضامن واسع رفضا لجرائم الاحتلال بما فيها المواقف داخل الولايات المتحدة نفسها، وتحديدا المواقف الشعبية، والاخذ بالاعتبار اعادة الاتصال مع الادارة الاميركية على المستوى الرسمي ايضا!! وهل يمكن احداث التغيير المنشود؟ وما هي الاوراق التي نملكها، والتي من شأنها التاثير وصولا للتغير؟ .
وبدون شك فان احدا لا يتبادر لذهنه ان بالامكان تجاوز الولايات المتحدة، وثقلها، وقوتها على الحلبة الدولية، وتأثيرها على مجمل القضايا الاقليمية والدولية، او ان بالامكان استبعادها عن اي تسوية مستقبلية في منطقتنا فهي الحليف الاول بلا منازع لدولة الاحتلال وهي كذلك في ذات الوقت تظهر اليوم استعدادها لاعادة ترتيب المنطقة وفق مصالحها، والدفع للمساهمة في الوصول لحالة استقرار ما بعد التطورات في الاقليم بما فيها في سوريا، وقضايا المنطقة الاخرى والاعتراف الضمني ان اي تسوية يجب ان تشمل ايجاد حل للقضية الفلسطينية التي هي جوهر الصراع في المنطقة، ولكنها تبتعد ايضا عن التسوية العادلة، والشاملة، وتريد التوصل لحلول مؤقتة طويلة الامد، وليس حل جذري يلبي تطلعات الشعب الفلسطيني على قاعدة العدالة والحقوق .
هذه المعادلة تتطلب العمل على مستويين من جانبنا كفلسطينيين بعد تقوية الموقف الداخلي من الجميع الذي يؤكد استمرار التمسك بكامل الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، ورفض صريح واضح ايضا لاي صيغ او مبادرات تنتقص من هذه الحقوق المستوى الاول هو استمرار الاتصالات، وعدم اغلاق الابواب امام(العهد الجديد) في واشنطن مع الاحتفاظ ان لا تغيرا جديا يمكن احرازه قريبا، وهذا تدركه القيادة الفلسطينية التي رحبت، واستبشرت خيرا بالقادم الجديد، وفتحت له ذراعيها اما المستوى الثاني وهو ربما الاهم فيتمثل بالعمل على زيادة التصدعات في الرأي العام الاميركي تجاه القضية الفلسطينية، ومن الاهمية هنا ملاحظة المسيرات التي لم يسبق لها مثيل التي خرجت في شوارع المدن الاميركية للتنديد بالعدوان الاخير، والمطالبة بوقف التهجير القسري في احياء القدس العربية، وحملات التواقيع التي ضمت اعضاء في الكونغرنس، وشخصيات وازنة من اكاديمين، وفنانين، وكتاب اضافة لنقابيين ومجالس طلبة، وكنائس وفعاليات مختلفة كلها دعت لمراجعة الدعم الاميركي لاسرائيل بل بعضها طالب بوقف هذا الدعم فيما ذهبت اخرى لوصف ما جرى في غزة من عدوان انه جريمة حرب، وفي القدس بالتطهير العرقي هذه مصطلحات غير مألوفة، ولم يجري التداول بها بهذا القدر من الجرأة في المواقف، والابرز فيها ان عدة مؤسسات من دوائر مقربة من اللوبي المؤيد للاحتلال داخل الولايات المتحدة كانت تعبر فيما مضى عن مساندتها للاحتلال باتت الان اكثر تعاطفا مع الشعب الفلسطيني، وتجد طريقها لاعلان لا يروق لتل ابيب، ومن هنا يمكن القول ان التعويل على احداث تغير جدي في الموقف الاميركي لن يحدث الا اذا شهد الرأي العام الاميركي فرقا جوهريا للتأثير على صناع القرار، وللتذكير فأن الولايات المتحدة لم تقرر الانسحاب من فيتنام الا بعد المسيرات الضخمة التي شهدتها المدن الاميركية للمطالبة بالانسحاب، وهو العامل الهام، والحاسم للانسحاب من فيتنام الى جانب صمود، ومقاومة الشعب الفيتنامي .
هذا تطور هام علينا العمل على دفع الامور به قدما من اجل المزيد من حشد التأييد داخل اوساط القطاعات المختلفة في دولة تعودت تاريخيا على اعتبار اسرائيل ركنا ثابتا في مجمل العلاقات الاميركية في المنطقة موقف غير قابل للطعن او التشكيك به، والمهمة ليست بالسهلة، ولا ادعي ان الولايات المتحدة ستكون او هي اليوم في موقف يتناقض مع الحفاظ على (امن اسرائيل) الا ان هناك "خلخلة" ما قد حدثت في مجتمع رأسمالي لدى دافع الضرائب المواطن الاميركي، حتى الشركات، وجماعات المصالح، واصحاب النفوذ بالامكان اليوم فتح نقاش جدي معهم تقوم الجالية الفلسطينية، والجاليات العربية والاصدقاء، ونشطاء التضامن مع الشعب الفلسطيني يمكنهم لعب الدور الاساس لتطوير المشهد غير المعتاد في امريكا فالمسيرات التي شهدتها المدن الاميركية تعيد التذكير بان شرارة انهاء نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا مطلع تسعينات القرن الماضي استندت اساسا لتحركات شعبية اتسعت شيئا فشيئا وصولا لرأي عام دولي انهى معاناة السود في ذلك البلد، والوضع اليوم ممكن ايضا لقيادة تحرك مماثل داخل الولايات المتحدة نفسها لانهاء الاحتلال يبدأ بالضغط لوقف الدعم العسكري والمالي، ومبيعات الاسلحة الاميركية، وتوسيع حملات المقاطعة الاكاديمية، والثفافية، وفي شتى المجالات وصولا لفرض العقوبات على اسرائيل بوصفها دولة عنصرية تنتهك القانون الدولي، والمواثيق الدولية كافة، وتمارس جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني .
حركة شعبية واسعة النطاق اذا ما احسن استثمارها بقوة خطاب سياسي فلسطيني موحد عنوانه القدس، وجرائم الاحتلال فيها، وفي كل الاراضي المحتلة، وملامسة حالة التعاطف الدولي التي نشأت في اعقاب الحرب العدوانية سيكون ربما بمقدورها ان تؤسس لحركة دولية واسعة النطاق احدى اهم ساحاتها امريكا، واوروبا، وجعل الصورة عكسية (بالمقلوب) وتغير نمط التفكير ازاء القضية باعادة تصحيح دور الضحية في مواجهة الجلاد، وصاحب الارض مقابل اللص، وبناء ركائز جديدة مغايرة عن السابق تتعلق بتقوية خطاب الحقوق في مواجهة خطاب تزيف التاريخ فاسرائيل اعتمدت على الرأي العام دوما في الافلات من العقاب، وحصلت على التأييد الذي استمدت منه طغيانها، ووفر غطاء مستمرا لعدوانها .
اليوم ليس من المستحيل الرهان على ايجاد، واحداث الاختراقات الواسعة في مصفوفة التأييد لاسرائيل لكن مطلوب منا استمرار التمسك بالحقوق الوطنية المشروعة، ورفض اي محاولات للتنازل عنها اما مسار المفاوضات الجديد ان كان متاحا فهو يجب ان لا يكون، ولن يكون على اساس الانفراد الاميركي احادي الجانب، ولا الرباعية الدولية بل يبدأ من الامم المتحدة، وتنفيذ قراراتها وممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه كاملة فوق ترابه الوطني اي مسار سياسي لا يستند للحقوق الوطنية، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية لن يفضي لاي نتيجة سوى اطالة امد الصراع وتأجيجه وفتح الابواب على سيناريوهات قد تكون مختلفة عن الماضي بالامكان العمل اليوم على جبهة جديدة باتت متاحة اكثر هي الرأي العام الاميركي نفسه فهل يبدأ التغيير الحقيقي من الولايات المتحدة ذاتها !!