الكاتب: عوني المشني
قبل ثلاث سنوات ، اكثر او اقل قليلا ، وفي بيت صديقي الدكتور ثابت ابو راس في منطقة الجليل ، جمعتني جلسة مع عدد محدود من الشخصيات الاسرائيلية ، اكاديمين ، صحافيين ، محامين ... الخ . وكان النقاش يتمحور حول السلام الفلسطيني الاسرائيلي : قلت لهم ان النقاش مع الاسرائيليين لا يجدي نفعا ، مهما امتلكنا من منطق وقدمنا من معطيات لاقناع الاسرائيلي بالسلام هذا لا يقدم ولا يؤخر ، ببساطة امتلاككم للقوة يفقدكم المنطق ، احتلت القوة لديكم مكان المنطق ، تفكرون من فوهة بندقية ، من يفكر بهذه الطريقة لا يجدي معه المنطق . مثلا لم تنسحب اسرائيل من اراضي محتلة في تاريخها عبر المنطق بل عبر تحولات احدثت صدمة للعقل الاسرائيلي ، سنة ١٩٥٦ انسحبت بفعل صدمة احدثها موقف الرئيس الامريكي ايزنهاور ، وعندما نتحدث عن الرئيس الامريكي فاننا نتحدث عن القوة الامريكية الصاعدة في ذلك الوقت والتي تحتل مكان بريطانيا في رعاية اسرائيل ودعمها ، سنة ١٩٧٣ حرب اكتوبر احدثت الصدمة التي ادت لانسحاب من سيناء ، سقط وهم خط بارليف فسقطت اوهام القوة . من لبنان اسحبت اسرائيل تحت ضغط المقاومة التي نبتت فجأة واحتلت مكان المقاومة الفلسطينية في لبنان، خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عزز بطريقة او باخرى صعود مقاومة لبنانية ، حتى اوسلو جاءت بفعل صدمة الانتفاضة الاولى ، الانتفاضة التي اسقطت اوهام التعايش مع الاحتلال ولم توقفها سياسة " تكسير العظام " .... والان ، انتم تشعرون بارتفاع منسوب القوة لديكم بما يفقدكم المنطق ، لا يجدي حواركم ، انتم بحاجة لصدمة من نوع ما لتعودوا الى المنطق . بعض الاسرائيليين شكك ومعظمهم وافق ، بعضهم ناقش وبعضهم فكر ولم يناقش ووافق بصمته .
ما حصل في الشهرين او الثلاث شهور الاخيرة شكل متغيرا دراماتيكيا ، المفاجئة الصادمة ، كانت انتفاضة جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل ، واكثر من ذلك الصحوة المفاجئة للشعب الفلسطيني في الشتات ، واستعدادية حماس لفتح حرب كبيرة على خلفية القدس واحداثها ، وطبعا انتفاضة شعبنا في الضفة ، هذه الصورة الشمولية وما خلفت من ارتدادات في امريكيا واوروبا والعالم شكلت الصدمة التي قد تمثل منعطفا في التفكير الاسرائيلي .
صحيح ان حالة الانكار التي يعيشها الاسرائيليين الان وبعد الاحداث مباشرة توحي بان الصدمة قد دفعت الاسرائيليين اكثر باتجاه العدوانية ، وهذا امر طبيعي وهو جزء من الصدمة ذاتها ، حالة انكار تستمر فترة حتى يبدأ العقل السياسي الاسرائيلي يعمل بشكل طبيعي حينها ستأخذ الامور مسارا مختلفا .
وللصدمة اسباب واثار وارتدادات ، السبب الاساس خلف الصدمة انها احداث جاءت خارج السياق الطبيعي المتوقع ، الفلسطينيون يعيشون مشاعر انكسار واحباط ، وقيادتهم فشلت في تقديم اجوبة على الاسئلة الحائرة التي تحيط بهم : ماذا بعد ، وكيف ، ومتى ، وما هي الخيارات ..... الخ من الاسئلة التي انعدمت الاجابات عليها . غزة محاصرة ، الضفة تحت عربدة الاستيطان ، القدس تقضم بالتهويد ، الشتات يعيش ازمة المكان والهوية ولقمة الخبز ، التطبيع العربي يهرول مسرعا بخطى وقحة ، التشرذم والانكسار العربي ، بالمقابل التفوق الاسرائيلي الغير مسبوق ..... هذا السياق العام والطبيعي انه يؤدي الى الهزيمة او التعايش معها . بدون مقدمات ، بدون طلائع ، بدون تحضير ، بدون ارهاصات ... وفجأة في لحظة منقطعة عن سياقها ، شكلت الشعب الفلسطيني فرقة منتظمة عزف كل اعضاءها سمفونية كفاحية لا اعظم ولا اجمل ، الشتات عرف دوره بالضبط كما الضفة وكما الداخل وكما قطاع غزة ، والعالم تفاعل مع هذه السمفونية كجمهور يتذوق الاحتراف ويحترمه ويعيشه ، انها لحظة منقطعة عن سياق زمن الانكسار والهزيمة ، خارجة عن نسق زمن التطبيع ..... شعب تفوق على نفسه وبدون ان ترتجف قدماه تقدم بحسه الاصيل وصنع ملحمة كفاحية . اضافة لكل هذا فان سبب اخر للصدمة ان مطلق القوة الاسرائيلية كسر سيكولوجيا امام مطلق الضعف الفلسطيني ، كيف لشعب ضعيف مشرذم شبه اعزل ان يتفوق على دولة مسلحة حتى الاسنان متفوقة وتمتلك جل جنون التكنلوجيا ؟!!!! هذا اصاب الاسرائيليين بصدمة النتائج الغير معقولة بالنسبة للعقل الاسرائيلي ، وهنا كانت الصدمة ليس بعجز الحلول العسكرية بل بقدرة الفلسطينيين على ايجاد حلول شبه بدائية لمشاكل معقدة ، هذا ليس عسكريا فقط كما هو الحال مع القبة الحديدية ولكن من ناحية عملية ، ماذا يصنع جيش متفوق مع عشرات الالاف اذا ما قرروا اجتياز الحدود سلميا ولا يحملون بايدهم سوى زجاجة ماء للشرب ؟!!!! الاخطر ماذا لو كان هذا العدد في مناسبة اخرى بالملايين ؟!!!! واسباب الصدمة كثيرة ، سقوط وهم التطبيع لتجاوز الحل مع الفلسطينيين ، جهد سنوات للتطبيع الاسرائيلي مع الانظمة العربية لتجاوز المسألة الفلسطينية ، كل هذا الجهد ذهب ادراج الرياح لتعود القضية الفلسطينية ومن اوسع الابواب . والحل الوحيد هو التعاطي مع الموضوع الفلسطيني !!!! واذا ما واصلنا البحث في اسباب الصدمة سنجد الكثير ، وربما بعضها تحتاج الى عمق اكثر . لكن في النهاية الصدمة حصلت باقوى واشد مما يمكن للمرء ان يتوقع ، حصلت وبقي معرفة ارتداداتها واثارها المتوقعة .
من الطبيعي والطبيعي جدا ان تكون حالة الانكار والمكابرة هي ردة الفعل المباشرة للصدمة ، اكثر تطرف ، اكثر عدوانية ، واكثر تعنت ، ولكن تلك ردة فعل تلقائية وخارج سياق المنطق وان تستمر طويلا ، فبعد ان يعود العقل السياسي الاسرائيلي يعمل بشكل منهجي ستبدأ المتغيرات ، ربما تبدأ على خجل في بداية الامر ولكنها ستذهب الى نهاية الشوط كمحصلة نهائية ، وهنا فان اسرائيل ستواجه اكثر من عقدة ، الاولى فانها خلقت واقعا على الارض جعلت من حل الدولتين التقليدي امرا يصعب ان لم يستحيل تحقيقه وذلك عبر التمدد الاستيطاني والاهم هيمنة الفكر الاستيطاني على السياسة الاسرائيلية ، اما العقدة الثانية ان دخول فلسطينيي ١٩٤٨ على الخط كمشكلة وطنية سيجعل من خيار الفصل الكلاسيكي متعذرا تماما ، فكما ان الاستيطان في الضفة عقد عملية الفصل في الضفة الفلسطينية المحتلة فان انتشار فلسطينيي الداخل في كل اراضي ١٩٤٨ اضاف عقدة جديدة واكثر خطورة ، والعقدة الاكثر خطورة انكشاف الحالة الاسرائيلية عالميا كحالة فصل عنصري ليس ضد فلسطينيي الضفة الفلسطينية المحتلة بل ضد جزء من مواطنيها وهم فلسطينيي ١٩٤٨ ، هذا الانكشاف جعلها ليس احتلالا بغيضا فحسب بل نظام وحالة بغيضة .
هنا تكون العقدة الاسرائيلية قد تشكلت واصبح تجاوزها يحتاج الى ابداع سياسي لا يمتلكه الا قادة على قدر كبير من الجرأة والحكمة ، ان الصدمة التي حصلت توفر لمثل هذا القائد الفرصة لان في ظل المتغيرات العملية التي حصلت على الارض سيكون العقل الجمعي الاسرائيلي مهيئا لمتغيرات دراماتيكية في الاداء السياسي . واكثر من هذا فان المتغيرات في العقل الاسرائيلي الجمعي قد تساهم وبقدر كبير في التهيئة للقيادة السياسية باجراء تغييرات جوهرية في الاداء .
هذا يقودنا الى اننا على ابواب ابعاث رؤى سياسية اسرائيلية ستكون مختلفة والى حد كبير ، الى حد النقيض لما يجري الان ، ولكن هذا يحتاج الى مزيد من الوقت مدعم بجهود فلسطينية صحيحة .