الكاتب: العميد أحمد عيسى
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
لا يختلف إثنان من الفلسطينيين على أن الجولة الأخيرة من المواجهات مع دولة الإستعمار العنصري الإسرائيلي قد حققت جملة من الإنجازات التكتيكية والإستراتيجية، إلا أن الفلسطينيين في نفس الوقت يدركون أن هذه الجولة قد كشفت جملة من التحديات الصعبة التي قد يؤدي عدم مواجهتها بدقة وإقتدار إلى إضعاف هذه الإنجازات وربما العصف بها.
إذ يدرك الشعب الفلسطيني أنه لا يمكنه المحافظة على هذه الإنجازات وتوظيفها لصالح تحقيق أهدافه بالحرية والإستقلال والعيش الكريم دون معالجة بعض هذه التحديات فوراً، والتأسيس لمعالجة البعض الآخر مع مرور الوقت لإستعصاء المعالجة الفورية لها، لا سيما وأن الصغير قبل الكبير من الفلسطينيين بات يعرف أنه يواجه إستعمار يمتلك هو وشركاؤه الدوليين والإقليميين قدرات قد تمكنهم من إحتواء وتجويف هذه الإنجازات وتوظيفها لمصلحته، وحرمان أو منع الفلسطينيين من توظيفها لمصلحتهم.
في مقال سابق تناولتُ التحديات التي تواجه حركة فتح بعد معركة سيف القدس، وسيحاول هذا المقال إلقاء الضوء على ما يعتقد أنها تحديات تواجه حركة حماس.
وينبغي هنا التأكيد أن تناول التحديات التي تواجه حركتي فتح وحماس في مقالين منفصلين، لا يقصد الإشارة إلى أن الفلسطينيين في هذه اللحظة من الزمن يعيشون صراعا على نظامين الأول قد سقط بعد المعركة، وقد جاء أوان الثاني ليرثه، لا سيما وأنه قد خرج من المعركة باقل عدداً من التحديات، بل جاء هذا الفصل للتأكيد على أن الفلسطينيين برمتهم يعيشون في هذه اللحظة من الزمن صراعاً على عقولهم ووجدانهم قبل أن تبدو أثاره على نظامهم، وأن نقطة البداية في هذا الصراع كما يقول المبدع المصري مصطفى حجازي هي إحياء الشعب والمجتمع.. وملمح النصر فيه هي إستعادة معنى الوطن.. وتمام هذا النصر يكمن في بناء بيت فلسطيني يجمع ولا يفرق، يصون ولا يبدد، يوحد ولا يفرق، وما تناول هذه التحديات بشكل منفصل إلا لتسليط الضوء عليها بشكل قد يسهم في تطوير سبل معالجتها.
وهنا لا يمكن لأحد من الفلسطينيين أو غيرهم من المراقبين أن يجادل ضد الحقيقة الناصعة بأن الإنجازات التي حققها الشعب الفلسطيني خلال هذه الجولة من الصدام هي تمرة ونتاج نماذج متعددة من المواجهة والمقاومة جمعت بين: سيف القدس الذي رفعته غزة ببسالة واقتدار، وديبلوماسية رام الله، وخطاب منى الكرد وشقيقها محمد في الشيخ جراح، وروح الشباب المسيحي والمسلم في باب العمود، وعزيمة المرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى وباحاته، وهبة صبايا وشباب اللد وحيفا ويافا والطيبة والنقب ومعظم مناطق العام 1948، وغضب صبايا وشباب رام الله ونابلس وبيت لحم والخليل وباقي مناطق الضفة الغربية، ونخوة صبايا وشباب الشتات الفلسطيني ومعهم الأحرار حول العالم، ثم إبداع الصبايا والشباب الذين وظفوا ما بحوزتهم من تكنولوجيا في هزيمة الرواية الصهيونية الإستعمارية وإعلاء الرواية الفلسطينية.
ويكمن التحدي الأساس الذي يواجه الشعب الفلسطيني عامة وحركة حماس خاصة في القدرة السريعة على تفكيك شيفرة هذه اللوحة التي جمعت دون تنسيق أو تخطيط مسبق بين نماذج المواجهة المشار اليها في الفقرة السابقة، والتي مست بدورها فعلاً وجود دولة إسرائيل، الأمر الذي لا يبدو أن حركة حماس بكل قياداتها وصناع الرأي فيها قد أحسنوا فعله، إذ فيما قدم المناضل الكبير يحيى السنوار في كلمته لحشد من الإعلاميين يوم الأربعاء الموافق 26/5/2021 نموذجا عبر بصدق عما يريده الشعب الفلسطيني من نموذج القيادة والقدوة بما تضمنه من روح التحدي للمستعمر الغاصب وعمق الفهم للواقع وتعقيداته، سارع البعض من أصحاب الرأي في قيادة الحركة لتحميل الإنجازات التي تحققت في الجولة الأخيرة على خطاب قديم يفرق ولا يُجمع، يبدد ولا يوحد، يُضعف ولا يقوي، الأمر الذي قد يعيد الشعب برمته إلى مربع لا يريده ولا يبتغيه، فضلاً عن أنه يهدد بتشتيت وتجويف الإنجازات التي تحققت.
في الواقع يكشف خطاب هذا البعض عن عيب جوهري في المنهج التربوي لحركة حماس الذي ترى فيه هذه المقالة أنه مصدر كل التحديات، إذ يقوم هذا المنهج على أساس أنه الحق الذي يمتلك الصواب عما سواه، وما على الآخر إلا أن يصدع له، وإلا خالف النص وخرج عن الصواب، الأمر الذي يحتاج إلى تورة داخلية لتطوير الكثير من المناهج والأدبيات التي تربت عليها أجيال طوال عقود، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بالآخر وممارسة السياسة,
ويتجلى التحدي الثاني في السياسة وممارستها، إذ لم تنجح حركة حماس وبعد دخولها العقد الرابع من عمرها في تطوير بديل سياسي لمشروع أوسلو الذي لم يوصل الشعب الفلسطيني لغايته ومبتغاه في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران العام 1967 وعاصمتها القدس الشريف.
ويدور التحدي الثالث حول عدم نجاح حركة حماس في تقديم نموذج حكم جاذب للشعب الفلسطيني، الأمر الذي ينطق بما فيه في شوارع وأزقة غزة، أما التحدي الرابع فيكمن في عدم نجاح حماس على تطوير ونقل بنيتها الفكرية وسلوكها السياسي والمجتمعي من الإطار التنظيمي المحدود إلى الإطار الوطني الأوسع كما جادل عضو مكتبها السياسي غازي حمد يوماً في مقالة له نشرت في سبتمبر من العام 2017.
ومقابل هذه التحديات هناك حاجة للتأكيد أن حركة حماس قد خرجت من الجولة الأخيرة بعدد من نقاط القوة، ومن أبرز هذه النقاط أن حماس بقيادتها لغرفة العمليات المشتركة في غزة قد وفرت للشعب الفلسطيني سيف ودرع يحتاجهما الشعب الفلسطيني حقاً ولا يمكنه الإستغناء عنهما، سواء في مرحلة ما قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، هذا إذا قدر لها أن تقوم، أم بعد قيام الدولة، لا سيما وأن اليمين المهيمن على إسرائيل قد تجاوز كل الحدود في إعتدائه وتغوله على الفلسطينيين وحقوقهم وممتلكاتهم ومقدساتهم.
وتتجلى نقطة القوة الثانية في إعادة غزة وأهلها إلى الفضاء الفلسطيني، الأمر الذي أفشل خطة إسرائيل الهادفة إلى إبقاء السلطة بلا سلطة وإخراج غزة من الفضاء الفلسطيني وفقاً لقول المرحوم صائب عريقات قبل عدة سنوات من رحيله.
وفي الختام تأمل هذه المقالة أن تأخذ القيادة الفلسطينية التي ستشرع في حوار وطني معمق في القاهرة قريباً ما تضمنته هذه المقالة والمقالة السابقة من تحديات ومعززات للخروج بإستراتيجية وطنية حان وقتها وإنتظرها الشعب طويلاً.
وفي هذه المناسبة تستحضرني مجادلة المبدع المصري عمار على حسن في كتابه (التغيير الآمن) بقوله "يتوهم البعض أن المقاومة مرهونة فقط بالدم والرصاص، وأن القتال وخوض المعارك هو كل درجاتها وأشكالها، أو هو مبتدؤها ومنتهاها" وتضيف هذه المقالة أن إمعان النظر في ما جسده الفلسطينيون من نماذج مقاومة في الجولة الأخيرة، يبرهن على أن فعل المقاومة يدور على جبهات عدة، ولا يقتصر على جبهة بعينها ولا طرف بذاته.