السبت: 16/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الأدمغة النازية الجديدة تقترف محرقة بشرية وبيئية شاملة في قطاع غزة

نشر بتاريخ: 06/06/2021 ( آخر تحديث: 06/06/2021 الساعة: 09:40 )

الكاتب: جورج كرزم

كان العدوان الذي شنته "إسرائيل" في شهر أيار الماضي على أهلنا في قطاع غزة بمثابة محرقة بشرية جماعية هندستها الأدمغة النازية الجديدة المريضة التي أبادت بشكل منظم أسرًا بكاملها عن بكرة أبيها؛ فبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين أكثر من 250، معظمهم من الأطفال والنساء والمسنين، فيما بلغ عدد الجرحى أكثر من ألفين.

تلك المذابح البشرية اُرتكبت فيها عمليات القتل بالجملة؛ ناهيك عن أبراج سكنية ومنازل كثيرة سويت بالأرض، ودمار هائل في البنى التحتية والأراضي الزراعية والمدارس والمؤسسات ودور العبادة.

عشرات المنازل دمرت تدميرًا كاملًا على رؤوس قاطنيها، فشردت الحرب عشرات الآلاف تحولوا بين ليلة وضحاها إلى نازحين ومشردين، وجزء كبير من هؤلاء المشردين نزح إلى مدارس وكالة غوث اللاجئين.

غالبية الشهداء هم من المدنيين غير المقاتلين، بل إن معظمهم عبارة عن أطفال ونساء وشيوخ. المشاهد الدموية البشعة لا تُعد ولا تحصى، وأبرزها الأطفال الثمانية وأمهاتهم (عائلتي أبو حطب والحديدي) الذين أصابتهم قذائف الاحتلال بشكل مباشر ومتعمد في مخيم الشاطئ، ومجزرة شارع الوحدة.

أجساد عشرات الأطفال احترقت أمام عيون العالم "المتحضر". هذا كل ما تفتّقت عنه آلة القتل السادية المريضة التي فشلت في تحقيق أي من الأهداف العسكرية الكبيرة، مثل القضاء على الصواريخ، واصطياد رموز قيادية للمقاومة، وسحق بنية المقاومة، وتدمير الأنفاق الهجومية؛ بل إن أبرز إنجازاتها عبارة عن مجازر همجية ضد شعب أعزل محاصر ومجوع.

باعتقادي، من يذبح الأطفال بالجملة ويقصف المشافي والبيوت الآمنة، يستحيل أن ينتمي إلى الجنس البشري، بل قد يكون انتماؤه أقرب إلى الكائنات البهيمية المتوحشة.

القصف الإسرائيلي استهدف المشافي والمراكز الصحية وسيارات الإسعاف والمنازل والمدارس والمساجد والمؤسسات والأراضي الزراعية والمنشآت الزراعية والتجارية والصناعية التي دمرت بشكل كامل أو جزئي؛ يضاف إلى ذلك تدمير محطات للصرف الصحي التي يستفيد من خدماتها مئات آلاف المواطنين. إذن، حجم الدمار في غزة هائل، وستستغرق عملية إعادة بناء ما دُمر سنين طويلة.

أسلحة فتاكة محرمة دوليا

تكنولوجيا جيش الاحتلال لم تتمكن من كشف أنفاق ذات قيمة استراتيجية، بل إن خبراء الجيش الإسرائيلي فشلوا أيضا في تطوير منظومة قادرة على كشف أنفاق يجهل الإسرائيليون بداياتها ونهاياتها.

بشاعة الأسلحة الفتاكة المحرمة دوليًا التي استخدمها الإسرائيليون، مثل الأسلحة الكيميائية والقذائف الحارقة، تفسر العدد الكبير من الشهداء الذين وصلوا إلى مشافي قطاع غزة جثثا متفّحمة، أو أشلاء ممزقة، إضافة إلى التشوهات والأطراف العليا والسفلى المبتورة، والحروق العميقة التي تصل إلى العظام. كما استخدمت الأدمغة المجرمة غازات سامة استهدفت الغزيين؛ كما تبين من حالات الشهداء في مشفى الشفاء.

وكما في عدواني 2008-2009 و2012 و2014، تشير الدلائل إلى أن بعض الأهداف في قطاع غزة تعرضت خلال الحرب الهمجية الأخيرة، للقصف الجوي والبري بالقنابل العنقودية التي تصنف عالميًا باعتبارها من أسلحة الدمار الشامل.

وقد استخدمت "إسرائيل" في هذا العدوان، وبكثافة أكبر، النسخة المطورة تحديدًا من هذه القنابل أميركية الصنع التي تعرف اختصارا بـِ DIME (الدايم). وما يعزز هذه الدلائل كثرة الإصابات المتمثلة في بتر الأطراف السفلية و/ أو العلوية.

ولا يزال العديد من الضحايا الذين بترت أطرافهم يرقدون في المشافي. ويعد فقدان الأطراف من أبرز نتائج القصف بالقنابل العنقودية، وتتمثل معظم الإصابات الناتجة عن قنابل "الدايم" في فقدان الأذرع والسيقان.

وفي تموز 2008 انفردت مجلة آفاق البيئة والتنمية في نشر تقرير خاص حول استمرار الآثار الصحية-البيئية القاتلة لهذه القنابل في جنوب لبنان، منذ أن توقفت الحرب في آب 2006.

الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة ألقت أيضا كميات كبيرة من القنابل العنقودية على الشعب العراقي، وذلك في حربيها ضد العراق (عامي 1991 و2003)، فأصابت آلاف المدنيين.

ويؤكد أخصائيون عسكريون، وبعض المصادر الطبية في غزة، أن الاحتلال ألقى قنابل الدايم على القرى والمدن والمخيمات والحقول الفلسطينية في قطاع غزة. ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأميركية تُعد مزود "إسرائيل" الرئيسي بأسلحة وذخائر محرمة دوليًا.

ويُخشى من أن بعض القنابل العنقودية "الدايم" لم تنفجر لدى اصطدامها بالأرض، ما قد يؤدي إلى استمرار معاناة المواطنين في قطاع غزة من بقاياها، فيتواصل سقوط الضحايا. ويُخْشى أيضًا من أن تنفجر مخلفات قنابل "الدايم" في محيط ركام منازل الغزيين وحقولهم الزراعية وبياراتهم.

ويمكن للقنبلة العنقودية الواحدة أن تحوي 200 – 650 قنبلة صغيرة تنتشر عند انفجارها على مساحات واسعة، علمًا أن معظم القنابل الصغيرة لا تنفجر فورًا عند ارتطامها بالأرض؛ فتبقى مكانها سنوات طويلة، لتنفجر لاحقًا عند ملامستها.

قنابل "الدايم"

تتكون قنابل DIME من غلاف من ألياف الكربون محشو بخليط من المواد المتفجرة (HMX أو RDX) ومسحوق مكثف من خليط من معدن "التنغستون" الثقيل (HMTA) والمكون من مادة "التنغستون" والنيكل، والكوبالت، والكربون، والحديد.

وتظهر كل هذه المكونات على شكل عدد كبير من الكرات الصغيرة. وتعد هذه الكرات ذات قوة تفجيرية كبيرة. ولا يلعب المعدن الذي في هذه القنابل دورًا في توليد الطاقة التفجيرية كيميائيا، بل إن التفاعل المسبب للانفجار يحدث بشكل عكسي، عبر استعمال مسحوق الألومنيوم لزيادة الطاقة التفجيرية.

وعند حدوث الانفجار، تتشظى القنبلة إلى كرات صغيرة، فيتحول المسحوق الكيميائي إلى شظايا صغيرة قاتلة، وبخاصة، لدى التعرض لها من مسافة قريبة؛ إذ تخترق الجلد وتنفجر داخله. وفي حال انفجارها على مسافة أربعة أمتار أو أقل من الأشخاص تؤدي إلى انشطار جسم الضحية وموته.

أما إذا انفجرت على مسافة أكبر فتؤدي إلى حروق عميقة تصل إلى العظم، وبخاصة عند الأطراف، ما يؤدي إلى بترها فورا. ويحدث هذا النوع من الإصابات بسبب قدرة الشظايا على اختراق العظام والأنسجة، وبالتالي التسبب في تهتك الأنسجة والأوردة والشرايين ونزيف دموي كبير في الأعضاء المصابة، مع احتمال الإصابة لاحقا بسرطان الأنسجة. وقد سجلت العديد من الحالات المشابهة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006.

وفي بحث مخبري أجرته في حينه وزارة الصحة الأميركية (عام 2005) تبين أن هذا الخليط الكيميائي (وتحديدًا التنغستون) يتسبب مباشرة في ظهور أعراض سرطانية في أنسجة الجرذان التي تعرضت لهذا النوع من المواد. كما بينت دراسات أخرى أن التنغستون النقي أو ثلاثي أكسيد التنغستون يعد عاملًا مسرطنًا.

قنابل فراغية وارتجاجية

بالإضافة لاستعمال القنابل العنقودية وقنابل DIME، امتد العدوان ليشمل استخدام القنابل الفراغية والارتجاجية في قصف المباني. وتتسبب القنابل الفراغية في تفريغ (شفط) الهواء الداخلي من المبنى المستهدف، فيؤدي الاختلاف الكبير بين الضغط الداخلي المنخفض جدًا للمبنى والضغط الخارجي المرتفع، إلى انفجار المبنى وانهياره نحو الداخل.

وتتميز الإصابات بهذا النوع من القنابل بتهتك وتلف كبيرين في أعضاء الجسم الداخلية، بينما تكون الآثار والجروح الخارجية على الجسم سطحية وطفيفة. والجدير بالذكر أن "إسرائيل" استخدمت هذا النوع من القنابل أثناء اجتياحها للبنان وحصار بيروت عام 1982، وأيضا أثناء حرب تموز 2006 وحرب الكانونين (2008-2009) وحرب 2014.

عواقب صحية-بيئية كارثية

حذر خبراء كثيرون من العواقب الصحية-البيئية الكارثية الناتجة عن القصف الإسرائيلي الوحشي للبنى التحتية المائية والكهربائية والصحية في قطاع غزة، ما أدى إلى دمارها الهائل؛ وبخاصة محطة توليد الكهرباء وخطوط التغذية الكهربائية، ومصادر المياه والآبار.

حجم النكبة الإنسانية التي خلفها العدوان والمتمثلة في انعدام الكهرباء والمياه وانتشار المياه القذرة، وبالتالي انتشار التلوث وانعدام النظافة العامة والأمراض الجلدية وبخاصة الجرب والحكة والطفح الجلدي، إضافة لأمراض الإسهال والتهاب السحايا لدى الأطفال تحديداً- إن حجم هذه النكبة أكبر بكثير من إمكانيات وقدرات الأهالي على مواجهتها وحدهم.

العديد من خطوط تغذية الكهرباء في قطاع غزة دمرت بالقصف الجوي أو المدفعي البري. وفي المحصلة، يعاني الأهالي من انقطاعات في التيار الكهربائي لفترات طويلة يوميا. المنازل المحظوظة هي تلك التي تتمتع لمدة ثلاث إلى أربع ساعات يوميا بالكهرباء، وذلك في بعض المناطق المحدودة جدًا، بينما حُرم ويُحرم معظم الناس من الكهرباء لأيام طويلة. الثلاجات في العديد من المنازل لا تعمل، وقد حولها الكثيرون إلى مجرد خزائن.

ظروف حياة الغزيين كانت بائسة أصلًا قبل العدوان الأخير، إذ منذ عام 2006 يعيش الأهالي محاصرين مجوعين ليس فقط من الاحتلال الإسرائيلي، بل ومنذ عام 2013 يساهم النظام المصري أيضا في تشديد الحصار؛ فجاءت حرب الإبادة لتجهز على ما تبقى من مقومات الحياة الأساسية في قطاع غزة.

الآلاف من أهالي قطاع غزة لا يزالوا نازحين، ناهيك عن الآلاف الآخرين المشردين أصلًا منذ عدوان 2014. يضاف إلى ذلك الأحياء التي دمرت كليًا وسويت منازلها بالأرض، فأصبحت أثرًا بعد عين؛ ناهيك عن عشرات المنازل التي دمرت على رؤوس قاطنيها، فأبيدت عائلات بأكملها عن بكرة أبيها.

أمام هذا المشهد الدموي البشع الذي صنعه الاحتلال، لا يزال البعض يستغرب من إصرار أهلنا في غزة على الثبات والمقاومة، وتفضيلهم الموت وقوفًا على الحياة خنوعًا.

يمكننا القول بأن الحرب الهمجية الأخيرة تعد تتويجا لسنين الحصار الطويلة وما رافقها من إذلال وتجويع. وفي الواقع، تعد عملية حصار وحشر وتجويع أكثر من مليوني إنسان في مساحة جغرافية صغيرة (365 كم2) وكثيفة السكان، وقصفهم المكثف وتحويلهم إلى مختبر لفحص الأسلحة "المحرمة دوليًا"- تعد ممارسة إجرامية أبشع مما فعله النازيون في أوروبا، علمًا أن معسكرات الاعتقال النازية لم تُقْصَف من الجو والبر والبحر بهدف حرق وإبادة من فيها.