الكاتب: محمد نعيم فرحات
في سياق الصراع المعقد والطويل، أنجز الفلسطينيون وحلفاء فلسطين في الحرب الأخيرة، نقطة تحول حاسمة وغير مسبوقة في تاريخ الصراع ذات بعد نفسي ثقافي معنوي بالغ الأثر، ستذهب بالمنطقة والإقليم والعالم نحو وضع مختلف، تتكاتف مع نقاط تحول أخرى حصلت في مجرى الصراع، ترتب عنها زعزعة عميقة لكل الحقائق التي كانت إسرائيل تعتقد بأنها قد جسدتها في الزمن والوعي والواقع.
الحرب التي كانت القدس بمعانيها التاريخية والروحية محورها، وكانت فلسطين مساحة ومعنى واسئلة مجالها، استخدم فيها الفلسطينيون أسلحة الصوت واليد والصلاة والزحف والصمود المتواصل في كل خطوط التماس الحقيقية والمجازية للصراع، وشارك فيها تيار واسع ممتد، وصولا للاشتباك المسلح ، قالت بان وعيا فلسطينيا تفوق على نفسه وعلى عدوه أنجز اللحظة الفارقة، وعي كان له حلفائه تحت الأرض وفوقها وصدى واسعا في كل مكان على امتداد العالم.
عادةً في الحروب يذهب الناس لإحصاء الخسائر والضحايا، ويتطلعون إلى ما تحقق من سلم الأهداف عند أطرافها،في هذه الحرب يجب الذهاب أيضا لتقدير الخسائر غير المنظورة عند إسرائيل وتفاعلاتها، المتمثل في تهشيم وعي القوة وصورة الذات وإسرائيل الغالبة في نظر نفسها ونظر مواطنيها، مقابل صعود وعي الحق المقاوم بكل ما تطاله اليد من إمكانيات عند الفلسطينيين وطاقته على المعاودة والصبر والإبداع والجمال.
***
تعودت إسرائيل لعقود، أن تقول لكل من قاومها: قف وفكر. كي يغير خياره،لم تجد دعوتها الصدى المتوقع
تغير الزمن، فجاء من ضحاياها، من يستطيع أن يقول لها بعزم قادر: يا إسرائيل قفي وفكري.
من قاوموا إسرائيل، ظلوا قادرين على تجديد مقاومتهم جيلا تلو جيل.وكلما وقفوا ليفكروا، ذهبوا في خيار المقاومة وعلو به أكثر.
غير أن إسرائيل العاصية لم تستخلص العبرة، ولأنها لم تقف ولم تفكر، ها هي، تخسر صورتها وقدرتها كما كانت متعودة عليها بالتقسيط الاستراتيجي والرمزي الثقيل، وتمر في مشهد أخر يكتب نفسه في مسرح الصراع المعقد، يتضمن شتى المشقات الوجودية.
***
عام 1991 هاجم البرابرة الجدد العراق في سياق عدوانهم الدائم على شعوب المنطقة وعلى حقوقها ولحماية إسرائيل وكتعبير عن سوء فهمهم المقدس للمنطقة وشعوبها وحقوقها.
واحد من أبناء العروبة الثقافية مثل الطاهر لبيب عقب على العدوان، الذي كان يتلو عدوانا سابقا، ويؤسس لعدوان قادم قال، لدى أمريكا والغرب القدرة التقنية لتدمير العراق، لكن بأي سلاح سيعالجون القنابل الثقافية لشعبه ولشعوب المنطقة.
قنابل العراق الثقافية وفي واحدة من اعقد المواجهات التي تتواصل تباعا، كسرت صورة أمريكا ومن معها، وأحدثت انكشافا استراتيجيا للقوة الأولى في العالم.
بالتزامن، كانت القنابل الثقافية عند شعوب المنطقة تهشم إسرائيل استراتيجيا وتكسر صورتها وقدرتها معا، كما تم تتويج ذلك في حرب 2006
عدوانية الغرب وإسرائيل ظلت تعيد إنتاج نفسها دون أن تستخلص العبرة أو تتعلم الدرس.والقنابل الثقافية ومخزونها في وعي تيار وازن عند شعوب المنطقة يواصل اشتغاله بكفاءة في مسرح عمليات استراتيجي، من فلسطين إلى لبنان إلى سوريا إلى العراق إلى اليمن إلى إيران إلى الجزائر إلى عموم شعوب المنطقة.
***
فصل أخر من فصول الصراع على فلسطين وعلى حقوق شعوب المنطقة وتقرير مصيرها ترتسم ملامحه بوضوح، فصل يتضمن الفرص الصعبة للمعنيين برسم تاريخ أخر، تاريخ سيخلف على هوامشه جثثا سياسيا كثيرة،وكأن الزمن يعيد الاعتبار من جديد للمثل العراقي الشهير"طارت العصافير بأقدارها يا معود". ولطالما طارت عصافير التاريخ الواعد في أصعب الظروف.