الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
كل كيان احتلالي لديه ثلاثة خيارات لا رابع لها وهي: الهزيمة والرحيل او التوصل الى تسوية او الاندماج. فما هو الوضع اذن مع الاحتلال الاسرائيلي، الذي يدعي انه الاحتلال الاذكى والاقوى والمختلف؟ فهو لا يعرف نفسه بأنه احتلال بل هو عودة للأرض الموعودة وتصحيح للتاريخ الظالم وتحقيق للوعد الالهي الذي تكرر ستة عشر مرة في سفر التكوين، وشكل أحد الاعمدة الاساسية لبكائيات انبياء توراتيين كثر.
نحن امام احتلال مدجج بمقولات بالغة التعقيد وذات دافعية نفسية ووجدانية قوية تجعله قادراً على تقديم سردية تاريخية ما تزال تتمتع بكثير من التأثير والجذب. نحن امام احتلال لا يمتلك القوة المادية فقط بل يمتلك مضموناً أصبح يتخذ أكثر الاشكال عنفاً وتطرفاً وعصبية. وبهذا فهو احتلال فريد في التاريخ، من جهة انه يعتبر نفسه مالكاً للأرض والتاريخ، ومن جهة انه لا يعترف بأصحاب البلاد الاصليين ويعتبرهم مجرد طارئين او عابرين او حتى مغتصبين.
هل يمكن التوصل الى تسوية مع مثل هذا الاحتلال؟! للإجابة نقول ان أربع وسبعين سنة مضت منذ قيام اسرائيل والمحتل لم يستطع على الاطلاق ان يحقق تسوية مع الشعب الفلسطيني، فكل ما فعله هو خداع الفلسطيني والالتفاف على مطالبه او تأجيلها او افراغها من مضمونها او تقديم عروض اسوأ من بعضها البعض، وخلال ذلك كله، لم تتوقف عمليات الحفر تحت اقدام الفلسطيني مصادرة وحصاراً وتفكيكاً وانكاراً وقتلاً ومطاردة. أي ان الاسرائيلي المحتل لم يكن يقدم على تسوية الا بعد ان يهيئ الظرف المناسب اما لقتلها او تعطيلها او انتظاراً لرفضها.
التسوية برأي المحتل تمس رؤيته المثالية لنفسه ودوره ودور دولته أولاً، ولأن التسوية تتسبب في دخول المجتمع الاسرائيلي الى جدل يؤدي الى العنف او حتى الحرب الاهلية ثانياً.
ان عدم قدرة المحتل على الدخول في تسوية – حتى لأسباب عملية- سيدفعه الى مزيد من التطرف والتعصب، وهي عملية تقود فيما تقود الى تأزيم كيان الاحتلال، لأنه ببساطة لا يمكن ادارة احتلال اقتلاعي وادارة حياة ديموقراطية في ذات الوقت. ولهذا، فإن كيان المحتل يشهد حالياً تدهوراً حقيقيا على مستوى النظام السياسي والنظام الاجتماعي ايضاً.
ومن مظاهر ذلك. تراجع قيم التعايش والتسامح وازدياد مساحات الشروخ والفجوات الايدولوجية والطبقية والسياسية والعرقية، وتراجع الحقوق والمكتسبات المدنية لصالح حقوق والتزامات توراتية واصولية، واختطاف المناصب والاختلاف على مضامين الدولة والمجتمع واهدافهما وكذلك تفشي مظاهر العنصرية والعنف واستخدام اذرع الدولة لتحقيق المآرب السياسية وعدم القدرة على التوصل الى سلام مع الاقليم كله وعدم القدرة على خلق مجتمع صحي وسليم وطبيعي، ويضاف الى ذلك تعدد المدارس والمناهج والقيادات الروحية واستيقاظ الثقافات الفرعية بشكل لم يسبق له مثيل وتردي الصورة العامة للدولة وسياساتها وتآكل ادعاءاتها وتهافتها، وعدم القدرة على تحقيق الانتصار النهائي، فإذا اضيف الى ذلك صغر المساحة وقلة الموارد وتغير الاحلاف الدولية وتغير احوال الاقليم وتزايد قوة الضحايا، فأننا امام كيان لا يتحرج عن الكلام عن نهاياته، وقد صدر قبل عدة اسابيع كتاب لمؤلف اسرائيلي بهذا الخصوص يضاف الى عديد من المقالات والابحاث والكتب الاسرائيلية التي تضع مسألة زوال اسرائيل قيد البحث باعتبار ذلك سيناريو قائم.
أخلص الى القول ان الاحتلال وكيانه لا يمكن ان يظل طيلة الوقت قادراً ومسيطرا على زمام التاريخ وحركيته العالية والنشطة، وكلما ابتعد او رفض التسوية التي تطيل عمره بالمناسبة، فإنه يقترب أكثر فأكثر من النقطة الحرجة التي يصبح فيها هذا الاحتلال ليس عبئاً على نفسه فقط وانما على كل من يدعمه. هذا حصل في الماضي وسيحصل في المستقبل. هكذا ببساطة. او حتى بدونها، لا ضير