الكاتب: د. وليد القططي
زار محمد محمود آل خاجة، سفير الإمارات العربية المتحدة في "إسرائيل"، بيت زعيم حزب "شاس" الديني الصهيوني، ورئيس مجلس حاخامات التوراة شالوم كوهين، في بيته المُغتصب في مدينة القدس المُحتلة، وجلس أمامه يُقدّم قرابين الولاء بذلةٍ وانكسار، وأحنى رأسه له ليضع يده عليها، ليمنحه البركة اليهودية.
وقد عبّر السفير عن دهشته مما شاهده من "حياة اليهود الدافئين الطيبين"، ولم يُخفِ ذهوله من تسامح اليهود عندما رأى مسجداً إسلامياً وسط تل أبيب، وأعرب عن استهجانه لقيام بعض العرب الأشرار في القنوات التلفزيونية والجماعات السياسية بتشويه صورة الواقع الإسرائيلي الحقيقي المُشرِق، ومحاولة إظهار واقع مُختلف غير حقيقيّ مُظلِم لـ"دولة إسرائيل" لأبناء المنطقة، من العرب والمسلمين الذين تم تضليلهم بفعل "الدعاية المسمومة المشوّهة لواقع المجتمع الإسرائيلي الوديع المُسالم"!
هذا الواقع السّلبي المُختلف لـ"دولة" اليهود، والَّذي يتحدّث عنه سيادة السفير الإماراتي مستنكِراً، هو الواقع الحقيقي الذي عرفه الفلسطينيون والعرب والمسلمون عن الكيان الصهيوني، فاليهود الذين وصفهم السفير بأنهم دافئون وطيبون بلباسهم المدني، هم أنفسهم اليهود العدوانيون الدمويون بلباسهم العسكري، مُختبئين داخل طائراتهم ودباباتهم ومواقعهم، والذين يُرسلون قذائفهم لزراعة الموت والدمار في فلسطين والمنطقة، وهم أنفسهم اليهود المستوطنون العنصريون بجرائمهم الإرهابية، الذين يعربدون في مدن فلسطين، من حيفا إلى الخليل، ومن اللد إلى نابلس، ويوزعون الحقد والدم في ربوع فلسطين.
المسجد الَّذي لم يتوقّع سعادة السفير رؤيته في قلب "تل أبيب اليهودية المُتسامِحة"، هو أحد المساجد الناجية من التدمير والتدنيس في مدينة يافا العربية الصامدة، التي بُنيت على أنقاضها، وإلى جانبها، مستوطنة "تل أبيب" الكبرى. وقد خاض الفلسطينيون في يافا نضالاً مريراً لإعادة افتتاحه. وبناء على هذه الحقائق الغائبة عنه، يحتاج السفير إلى دروسٍ في التاريخ والجغرافيا والأدب، لتصويب فهمه للواقع غير المختلف في فلسطين.
الواقع غير المُختلف الَّذي لم يعرفه سعادة السفير محمد آل خاجة، هو أنَّه مجرد "جوييم" بدرجة سفير بالنسبة إلى الحاخام المتطرف شالوم كوهين، وكل اليهود في "الدولة" المُعجَب بها وبشعبها. ومفهوم "جوييم" عند "اليهود الدافئين الطيّبين" - كما يصفهم سعادته - يُطلق على جميع الناس من غير اليهود، وهو جمع "جوي"، بمعنى الآخر والغير والغريب، ويتضمَّن مفهوماً سلبياً، ونظرة استعلائية، وإحساساً عنصرياً، يقودهم إلى تضخيم الذات اليهودية، وتحقير الذات غير اليهودية، مهما كان دينها وقوميّتها ولونها.
هذه العقيدة الاستعلائيّة العنصريّة مستوحاة من كتبهم المُقدّسة المُزوّرة، كالتوراة التي تجعل الذات اليهودية مُقدّسة، انطلاقاً من فكرة الاختيار الإلهي، ومضمونها أنَّ الله تعالى فضّلهم على شعوب الأرض، وأعطاهم الحق في تسخيرهم واستعبادهم لخدمة اليهود؛ "شعب الله المختار".
وقد عزَّز التلمود عقيدة الاختيار الإلهيّ لهم، فجاء في أحد نصوصه المزوّرة على لسان موسى - عليه السلام - سائلاً الله تعالى: "لماذا خلفت خلفاً سوى شعبك المختار؟ فأجابه: لتركبوا ظهورهم، وتمتصّوا دماءهم، وتحرقوا أخضرهم، وتلوّثوا طاهرهم، وتهدموا عامرهم"، فزاد التلمود الذي كتبه حاخاماتهم بأيديهم من استعلائهم وعنصريّتهم وإرهابهم تجاه كل ما عداهم من أمم وشعوب، وهو ما أكده القرآن الكريم بقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، والأميون هم عرب الجاهلية وكل شعوب الأرض من غير اليهود، باعتبارهم درجة أقل من البشر، فاستغلّوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم، إذ إنّ القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية والشرائع الدينية تُطبق بين اليهود فقط، وهو ما عززته الحركة الصهيونية، كإفراز للمشروع الاستعماري الغربي بفكره الاستعلائي العنصري ضد الشعوب غير الأوروبية.
الشعور بالاستعلاء والإحساس بالتفوّق عند اليهود أمام الآخرين من غير اليهود "الجوييم"، ومنهم السفير الإماراتي المُعجب بحياتهم والمبهور بتسامحهم، يُقابله الشعور بالدونية والإحساس بالنقص عند السفير وكل العرب المهزومين أمثاله أمام الحاخام شالوم كوهين وكلّ اليهود وامتدادهم في المشروع الاستعماري الغربي.
كان ذلك واضحاً في كلام السفير الذليل وسلوكه المهين أمام الحاخام اللعين. هذا الإحساس والشعور أدّى به إلى تحقير ذاته وتعظيم ذات الحاخام على المستوى الفردي، وهو ما ينسحب على النخبة الحاكمة التي أفرزته، وكلّ النخب الحاكمة العربية، التي أدى بها الإحساس بالدونية والشعور بالنقص على المستوى الجماعي إلى مركّب الدونية القومية والحضارية، ما يجعلها تحتقر النُخبة قوميّتها وحضارتها، بينما تُعظّم قوميات وحضارات الشعوب والأمم الأُخرى التي تعتبرها أعلى قوميةً، وأرقى حضارةً، وأكثر تفوّقاً.
هذا الشّعور بالدونية والإحساس بالنقص على المستويين الذاتي والقومي، يؤدي إلى الهزيمة النفسيَّة أمام الآخر الأجنبي المتفوّق أو الغالب - حقيقةً أو توهّماً - وربما يتعدّى ذلك إلى الإحساس بالخجل والعار من ذاته وقوميّته، متجاوزاً نظرية عبد الرحمن بن خلدون في أنَّ المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في كل أحواله، إلى نظرية سيغموند فرويد في أنَّ المغلوب يتقمَّص لا شعورياً شخصية الغالب ويتوحَّد بها، رغبةً في التخلّص من دونيته ونقصه، ومتجاوزاً حالة التعايش الواقعي مع الاستعمار إلى حالة القابلية للاستعمار عند مالك بن نبي، بمعنى الاستعداد العقلي والنفسي للخضوع للاستعمار واستدعائه، وإلى حالة الرضا بالاستحمار عند علي شريعتي، بمعنى التمتع بالعبودية الطوعية للحاكم، مستعمِراً أم مستبداً... وعند ذلك الحد، يكون الإنسان - فرداً وشعباً – قد وصل إلى ما يُعرف بـ"هزيمة الوعي".
هزيمة الوعي في سيكولوجيّة الإنسان المغلوب، هي الصفات النفسيَّة نفسها للعربي المهزوم، سفيراً كان أم غفيراً، وهي حالة من الذلة والمهانة، ناتجة من فقدان الإرادة لتغيير واقع الهزيمة، اعتقاداً بأنَّ الهزيمة قدرٌ لا يمكن تغييره، وأنَّ النصر قدر مضى لا يمكن تحقيقه، فتحتلّ ثقافة الهزيمة مكان ثقافة النصر في الوعي، فيُهزم.
والأصل أنْ تمتلك الأمة وعي النصر، فتُدرك أنّ الهزيمة ليست قدرها الأبدي المستحيل تغييره، وأنَّ النصر هو قدرها اليقينيّ المحتوم تحقيقه، ووعي النّصر يتطلَّب السير في طريق طويل يبدأ بالنقد الذاتي، والإجابة عن سؤالَي: لماذا هُزمنا؟ وكيف سنتجاوز الهزيمة؟ وينتهي بمراكمة نقاط القوة ومعالجة نقاط الضعف... وصولاً إلى امتلاك ثقافة النّصر وإرادة النّصر.
هذا ما أدركته المقاومة ومحورها، وما جهله سفير الإمارات ونظامه الحاكم، وكل أنظمة التطبيع العربية الخاضعة للإرادة الصهيو- أميركية، وفريق "أوسلو" الفلسطيني المهزوم... لذلك، ما زالوا في مرحلة هزيمة الوعي. وإلى أنْ يصل السفير والنخبة الحاكمة في دولته، وكل الدول العربية المنزوعة السيادة والاستقلال والكرامة، إلى درجة الوعي بالنصر، سيظلّ السفير محمد آل خاجة "جوييماً" بدرجة سفير.