الكاتب: جمال زقوت
يبدو أن النظام السياسي الفلسطيني وصل مرحلة من التيبس وإدمان الفشل تجعل من الصعب جدًا، إن لم يكن من المستحيل إصلاحه من خلال ذات المكونات التي أوصلته إلى هذه الحالة أو حتى من تفرعاتها. وقد أثبت قرار تأجيل الانتخابات، بتواطؤ معظم أطراف الحركة الوطنية وصمت الآخرين وعجزهم عن تحدي هذا القرار، مدى المأزق الذي وصلت إليه الأطراف المهيمنة على المشهد والمتحلّقة حولها، وعمق أزمتها مع الشارع الفلسطيني، فهذه الأطراف باتت في واد والشارع الفلسطيني وتطلعاته في وادً آخر.
تمكنت قيادة حركة حماس من قراءة مأزقها وتداعيات فشل حكمها في غزة، وقامت ببناء استراتيجيتها للخلاص من قيود وأعباء الحكم، والتعامل من خلال الحلقة المركزية التي تُحرِّك وجدان ملايين الفلسطينيين وهي مسألة الاحتلال. ومن الواضح أنه منذ تولّي السنوار لمسؤولياته في قيادة الحركة أولى جهدًا خاصاً لمعالجة ما يستطيع من أورام الفساد والفشل التي لحقت بحركته التي تسيطر على القطاع دون أن يكون قادرًا على بلورة حلول جدية لاحتياجات الناس فيه، رغم محاولاته للانفتاح الداخلي أو الإقليمي، ويبدو أنه لم يكن أمام حماس سوى مزيد من الاستثمار في بنية المقاومة، ومحاولة تحصينها أو عزلها عن قيود وأعباء فشل الحركة الحاكمة.
جاءت المواجهة الأخيرة لتساعد حماس كي تستثمر بذكاء عدة عوامل، أهمها فائض الفراغ الناجم عن تراجع مكانة السلطة الوطنية وحركة فتح ومعهما فصائل منظمة التحرير جرّاء قرار الرئيس عباس إلغاء الانتخابات، والتي سوّقت وكأنها تسليم بالإرادة الاسرائيلية في القدس المحتلة، دون تقديم أي بديل عملي يعالج ما هو قائم من أزمة ثقة مع الشعب ومؤشرات اتساعها، سيّما أن مسوّغ التأجيل بحجة القدس قد ترافق مع تصاعد سياسة الأبارتايد وملامح التطهير العرقي الاحتلالي ضد أهل المدينة في الشيخ جراح وسلوان وغيرها من الأحياء والمرافق، الأمر الذي عزز قناعة أهل المدينة بأنهم وحيدين في ميدان المواجهة للدفاع عن حقهم في البقاء، وقد وصلت صرختهم إلى جميع أصقاع الكون الذي بدأ يشهد تغيرات واضحة في تموضع قوى كونية لمواجهة آثار سياسات ترامب الداخلية والدولية ومن ضمنها الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
التقطت حركة حماس هذين العاملين محاولةً، فيما يبدو، إعادة تقديم نفسها بأنها المكون الأساسي للمعارضة الشعبية والنأي عن كونها أحد طرفيّ مأزق المشهد الانقسامي الحاكم بكل تداعياته. فكانت المواجهة الأخيرة وكأنها البديل لمأزق الحركة الوطنية، والقادر على احتواء إرث الفراغ في مواجهة مأزق التسوية، التي بات من الواضح أنها تعاني من موت سريري لا أمل بالخروج منه في المدى المنظور، ودون العمل الجاد لتغيير ميزان القوى، وفي ظل إصرار القائمين على هذا النهج اللهاث خلفه والضرب بعرض الحائط كل المزاج الشعبي إزاء وهم التسوية والمتمسكين بتلابيبها.
كما جاءت نتائج المواجهة العسكرية لتُمكِّن حركة حماس من تقديم نتائجها، وكأنها انتصار لخياراتها وبالطبع فشل ذريع لرهانات الفريق الآخر الذي عاد مجددًا لإنكار المتغيرات والإصرار على الدوران في ذات الدائرة السابقة.
مرةً أخرى عدنا لذات المربع الذي بدأ منه الانقسام عام 2007، عندما اعتقدت حماس أنها فُوِّضت عبر الانتخابات لقيادة الشعب الفلسطيني منفردةً من خلال السلطة الوطنية، واليوم هي تعتقد مجددًا أن نتائج المواجهة العسكرية تُفوضها مرة أخرى لقيادة الشعب الفلسطيني من خلال السيطرة على منظمة التحرير وحسم استئثارها بشرعية التمثيل، وفي الحالتين لا تأخذ حماس بتجربة فتح ذاتها التي عندما بدأت بتكريس هيمنتها بدأت تتراجع مكانتها، وفي كلا الحالتين أيضًا يتناسى الطرفان أن طبيعة المرحلة تُحتّم الوحدة في مواجهة الاحتلال، وليس الصراع على احتكار الشرعية عبر وهم التسوية أو في العلاقة مع اسرائيل والمجتمع الدولي.
من الواضح تمامًا أن واقع الحركة الوطنية الراهنة غير قادر على مواجهة هذه القطبية الثنائية ولا حتى مساعدتها لإحداث تحول ينقلها من الصراع الإقصائي إلى التنافس الديمقراطي على الإنجاز وكسب ثقة المواطن داخل أطرٍ جامعة تحمي وحدة الشعب وقضيته وتراكم إنجازاته. هذا الواقع يضع الشعب الفلسطيني أمام احتمالين لمعالجة هذا المأزق: الأول يتمثل بواقعية الأطراف وتسليمها بحقيقة أن الشعب الفلسطيني لن يتخلى عن حقوقه الوطنية تمامًا كما لن يسلّم بهيمنة أي طرف على قيادة نضاله ومعارك صموده، وأن تسلّم هذه الأطراف المهيمنة على المشهد أيضًا بنمو قوى حقيقية جديدة خارج الحركة الوطنية التقليدية، ولا بد من إشراكها في تحمل مسؤولية عبور أعباء هذه المرحلة ومضمونها الرئيسي الانتقال من حالة المأزق الاستقطابي المدمر إلى حالة الشراكة والتحول الديمقراطي القائم على المراجعة لفشل مسارات المرحلة السابقة وآثارها المدمرة على القضية الفلسطينية، وبما يهيّئ لولادة مرحلة جديدة قائمة على الصمود الوطني والتمسّك بالحقوق الوطنية لشعبنا وخاصةً حقه في العودة والحق في تقرير المصير لجميع مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات بقيادة مؤسسات وطنية جامعة لا تنحصر بالقوى المهيمنة على المشهد الراهن ومخاطر الانتقال من القطبية الثنائية إلى المحاصصة الثنائية، بل بمشاركة القوى الحيّة والمنتجة في المجتمع والتجمعات الفلسطينية، وفي مقدمتها الشباب والمرأة، وذلك لمدة كافية لمعالجة المعضلات الخطيرة التي يعاني منها المجتمع جرّاء حالة الانقسام بكل تداعياتها، وللتحضير الجدّي والهادئ لانتخابات عامة ديمقراطية للسلطة والمنظمة في الداخل والشتات معًا، وما يستدعيه ذلك من توفير فضاء سياسي ومناخ ديمقراطي حقيقي. بمعنى آخر مرحلة يتم فيها حشد واستنهاض كافة القوى والطاقات للتركيز على متطلبات الصمود الوطني والبناء الديمقراطي كفيلة بتوليد حركة وطنية جديدة بوسائل ديمقراطية بعيدة عن الإقصاء والهيمنة والتفرد وقادرة على التعايش الخلَّاق في إطار استراتيجية عمل موحدة تستند للتعددية السياسية والرؤى الفكرية. هذه هي طبيعة المخاض الذي نمرّ به والمسؤولية تقتضي إدارة هذه المرحلة لتوليد هادئ يُجنّب القضية والشعب خضّات ولادة عسيرة إن لم يكن ما هو أسوأ.
إن لم يتم التوافق الوطني والشعبي على هذا الأمر، واستمرت حالة الفشل وضيق الحكام من الحوار والرأي الآخر، فسنكون أمام خيار تركيز الرهان على تمكين الأجيال الشاب التي باتت، دون حسابات أو قيود المصالح، تتلّمس الطريق نحو البديل لحالة الفشل والتيْه.
وهنا لا نُحَمّل هذا الجيل الشاب الواعد بمخزون المعرفة والتجربة عبء مرحلةٍ هي الأصعب، ولن نختبئ خلفه، وعلينا أن نشجعه ونوفر له بيئة حاضنة للمبادرة أمام مِقود القيادة ونقدم له العون والمساندة بقدر حاجته وقبوله لتلك المساندة في بلورة الإجابة على سؤال دور ومسؤولية الشباب في معركة المصير الوطني.
ويبدو أن طابع الأزمة وإصرار الأطراف على مزيد من التخندق يأخذنا تدريجيًا نحو الخيار الثاني، ولعلّ المشهد الأهم والذي تفوَّق بما لا يقاس مع مشهد المواجهة العسكرية، وهو خيار الوحدة الشعبية التي تجسدت في الميدان بتحركات شعبية واسعة النطاق بقيادة شبابية في الداخل والخارج تظهر كفاءة متقدمة لتَصدّر المشهد القادم، رغم محاولات احتوائها بإعلاء الصوت لطمس دورهم، أو بملاحقة النشطاء وتكميم أفواههم؛ فكلا الاتجاهين لا يكترثان بالإرادة الشعبية، وما زالا لا يؤمنان بإرادة التغيير الديمقراطي.