الكاتب: د. رمزي عودة
تحاط غالبية المناطق الفلسطينية المحتلة بسلسلة شبه متواصلة من المستعمرات الصهيونية، وهنالك بعض المدن الفلسطينية محاطةً من كل الاتجاهات بهذه المستعمرات مثل بيت لحم وقلقيلية، كما أن مدناً أخرى توجد في قلبها المستوطنات مثل البلدة القديمة في الخليل. ولهذا، فإن أكثر من 90% من الطرق الخارجية للمدن والقرى الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية هي طرق تمر بالمستوطنات، أو يمر بها المستوطنون، أو تؤدي الى حواجر عسكرية إسرائيلية دائمة أو مؤقتة. و بالنتيجة، هذا ما يجعل من الطرق التي يمر بها المواطنين الفلسطينيين المدنيين خطرة جداً على حياتهم وأمنهم .
وفقاً للتقرير العالمي لحقوق الانسان الذي أصدرته منظمة "هيومان رايتس ووتش" في العام 2020 ، قتلت قوات الأمن الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية 20 فلسطينياً، وجرحت على الأقل 2,001 حتى 5 أكتوبر، وبحسب "أوتشا" يشمل العدد أولئك الذين يُزعم أنهم هاجموا إسرائيليين، ولكن أيضاً أولئك الذين لم يشاركوا في أعمال عنف. وفي الواقع، فإن عدداً من الشهداء الفلسطينيين الذين شملهم التقرير إتهمتهم قوات الاحتلال بمحاولة الدعس للجنود أو للمستوطنين، تماماً كتلك الحالة التي قتل فيها الشهيد أحمد عريقات، وإتهمته بمحاولة الدعس على حاجز الكونتير بالرغم من أن شهادات شهود العيان وبيان أهل الشهيد ينفيان ذلك.
وفي الواقع، فإن غالبية الشهداء المتهمين بحوادث الدعس لا تستطيع حكومة الاحتلال تقديم دليل دامغ يثبت تورطهم في فعل الدعس. بالمقابل، هنالك عدة عوامل تشجع جنود الاحتلال على إطلاق النار باتجاه الفلسطينيين على الطرق والحواجز؛ من ضمنها الخوف المبالغ للجنود، وإستخدام القوة المفرط بقصد القتل وليس بقصد تجنب العنف، والمجد الشخصي والمهني الذي يحققه الجنود عند قتلهم لأحد الفلسطينيين، والعنصرية المتنامية في جيش الاحتلال. من جانب آخر، فإن الفلسطينيين الذين غالباً ما يتم قتلهم على يد جنود الاحتلال يكونون قد ضلوا طريقهم وسلكوا مساراً بالخطأ أدى بهم فجأة لمواجهة الجنود وجهاً لوجه. وفي غالبية هذه الحوادث يستطيع جنود الاحتلال أن يطلقوا الطلقات التحذيرية في السماء، أو أن يطلقوا النار على القدمين في حال الاقتراب، ولكنهم وعلى عكس كافة البروتوكولات الأمنية، دائما ما يفضلون القتل المباشر وترك الضحية تنزف حتى الموت قبل أن تصلها سيارات الاسعاف.
في الضفة الغربية، اذا ما أردت أن تنتقل من بلدة الى أخرى، عليك أن تفحص سيارتك جيداً، لانها إن تعطلت أمام أحد الحواجز العسكرية، فلربما تدفع حياتك ثمناً لهذا العطل. وفي الضفة الغربية عليك وأن تقود سيارتك بين المدن أن تركز إنتباهك جيداً على الطرق والاشارات الخاصة بالمسارات، لأنك إن فقدت الاتجاه الصحيح، سرعان من تجد نفسك أمام حاجز للجيش أو نقطة عسكرية أمام مستوطنة، وفي الغالب يطلقون النار عليك بسرعة، والتهمة دائماً جاهزة وهي محاولة الدعس والطعن.وهذا بالضبط ما حدث مع الاكاديمية الفلسطينية ذات التسعة والعشرين ربيعاً مي عفانة، والتي إستشهدت الأسبوع الماضي على حاجز مستحدث في قرية حزمة المحتلة.
عفانة فلسطينية متزوجة وأم لفتاة عمرها 5 سنوات، ولدت وترعرت في بلدة أبو ديس، وتدرس الدكتوراة في جامعة مؤتة الأردنية، وتتدرب في جامعة الاستقلال الفلسطينية، وكانت ستناقش رسالتها للدكتوراة في الصحة النفسية بعد يومين من إستشهادها. عفانة كانت تعاني من آلام شديدة نتيجة لحادث زرعت أسياخ بلاتين في جسدها قبل عدة أعوام، وقبل يومين من حادث إستشهادها نقلت للعلاج في المستشفى نتيجة لهذه الآلام. وبالضرورة، كل المعطيات تشير الى حالة من الاستقرار النفسي والاسري والاكاديمي والمهني لمي، وعندما قررت مي صباحاً التوجه بسيارتها الى مدينة رام الله لتقديم نتائج فحوصاتها للأطباء، مرت من بلدة حزمة، ودون إنتباه منها وجدت شارعاً فرعياً ترابيا جديداً قبل الشارع الالتفافي، هذا الشارع الترابي شقه جنود الاحتلال قبل عدة أيام بهدف إنشاء جدار فصل عنصري حول البلدة. وظنت مي أن هذه الفتحة تؤدي الى الطريق الالتفافي السريع دون الحاجة الى إنتظار طابور السيارات. وبالفعل إتجهت لهذا الطريق وتفاجأت بخيمة عسكرية لجيش الاحتلال فصدمت بها وتوقفت مذعورة. وخرجت من سيارتها رافعة اليدين وتبكي من الخوف، وبدأ الجنود يصرخون عليها ويرفعون أسلحتهم تجاهها مما أرعبها أكثر. ووفقاً لشهود عيان، طالبتها صرخات الجنود بالانبطاح على الارض، ولكن مي لم تكن لتستطيع أن تفعل ذلك بسبب آلامها الشديدة الناجمة عن زراعتها للبلاتين في جسدها كما أشرت سابقا. وحاولت مي المذعورة أن تشرح للجنود ذلك الأمر وهي رافعة اليدين. وأثناء تلك الفترة التي لم تستمر سوى دقيقة واحدة أوقف أحد ضباط المخابرات الاسرائيلية سيارته بالقرب من الشارع الرئيس وأطلق عليها ثلاثة طلقات أردتها شهيدةً على الفور. وسرعان ما أعلنت قوات الاحتلال عن مقتل مي بحجة محاولة الدعس والطعن. ولكن هذه التهمة تم نفيها من قبل عائلتها وشهود العيان، وبرغم ذلك، فقد أصر الجيش الاسرائيلي على إحتجاز جثمانها بمخالفة صريحة للقانون الدولي.
في الحقيقة، يدفع الفلسطينيون حياتهم ثمناً على الطرق الالتفافية. بالمقابل، تنتشر الاشارات العنصرية التي تضعها قوات الاحتلال على الطرق المؤدية الى المناطق الفلسطينية محذرةً الاسرائيليين من الدخول اليها بإعتبارها توقع الخطر على حياتهم. ومع هذا، فإنه في الخمس سنوات الماضية لا توجد أي حوادث أمنية ضل الاسرائلييون طرقهم الى المدن الفلسطينية وتم قتلهم أو حتى رشقهم بالحجارة، بالمقابل، فإن أي فلسطيني يفقد طريقه الى المناطق التي يتحكم بها الاحتلال يتم إطلاق النار عليه وقتله.
إن توفير حماية للفلسطينين على الطرق هو أبسط حقوق الشعوب والأفراد التي كفلها القانون الدولي والاعلان العالمي لحقوق الانسان، حيث إن حق الأفراد بالتنقل الآمن هو حق إنساني أقرته الشرعة الدولية. ولكن قوات الاحتلال تنتهكه بإستمرار دون أي رادع دولي، وترفض هذه القوات تشكيل أي لجان تحقيق مشتركة أو دولية للتحقيق في مقتل الفلسطينيين على الطرق. من هنا، فعلى الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة أن يحذروا جيداّ إضاعة الطرق في الضفة الغربية، لأن هذه الخطأ قد يكلفهم حياتهم. واذا لم يستطيعون فعل ذلك، فعليهم أن يبحثوا عن بدائل آمنة أخرى مثل تطوير جهاز جي بي أس يُحدّث في اليوم الواحد عشرة مرات على الأقل حتى يحذر من وجود الحواجز العسكرية الاسرائيلية المؤقتة (الطيارة)، وقد يكون البديل الآخر هو الطلب من الشركات العالمية المصنعة للسيارات إنتاج سيارات خاصة لإستخدام الفلسطينيين تكون آمنة جداً تجاه الاسرائيليين، بحيث تتوقف بسرعة عن السير اذا ما وجد رادارها علامات اسرائيلية!