الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
بعد هزيمة العام 1967 غرق الروائي الكبير نجيب محفوظ في حزن عميق . ولكن المثقف الحقيقي حين يحزن يبدع أكثر. ويعمل على تحويل الحزن إلى غضب ، ثم يعمل على تحويل الغضب إلى إبداع .
بدأ نجيب محفوظ بكتابة رائعته ( خمارة القط الأسود ) والتي صدرت في القاهرة 1969 . وكان من خلال هذه القصص يوحي لنا بإسقاطات سياسية كبيرة وخطيرة . وكأنما يهمس لنا بأن كل الدول العربية صار حالها مثل حال خمارة القط الأسود .
القصة الأولى التي اعطاها نجيب محفوظ اسم " كلمة غير مفهومة " . حيث المعلم حندس فتوة الحارة يذهب مع رجاله وأسلحته لضرب ابن حسونة الطرابيشي . وتكون النتيجة أن ابن حسونة الطرابيشي يقلب الموازين ويقتل المعلم حندس ويهرب رجاله من حوله . وهو تشبيه قاتل وحقيقي لحرب 1967 . ولكن بطريقة القصة الشعبية !! وبالفعل لا تزال نتائج حرب 67 غير مفهومة حتى يومنا هذا .
امّا قصة " خمارة القط الأسود " فهي قمة الإبداع . وفي كل مرة تعيد قراءتها تفهم رسالة جديدة كان الكاتب يريدنا ان نفهم منها حالنا العربي .
خمارة وضيعة وفقيرة لذوي الدخل المعدوم تسمى خمارة النجمة , يجتمع فيها البؤساء الفقراء والمعارف ليحتسوا الخمر بقرش أو قرشين فيطيروا من شدة السكر وينسوا همومهم وعائلاتهم وحياتهم . خمارة بائسة تمثل مجموعة من الزبائن المهزومين الذين يعترفون لأنفسهم أنهم فشلوا في الحياة ، ولا يبحثون سوى عن النسيان .
زبائن الخمارة يطلقون عليها اسم خمارة القط الأسود لان صاحبها الرومي يربي قطا أسودا سمينا يتنقل بين طاولات السكارى بحثا عن فتات الخبز . حتى صار مثله مثل الزبائن البائسين .
فضول القارئ يتضاعف لمعرفة ماذا يريد هؤلاء الزبائن أن ينسوا :
- أن ينسوا كثرة العيال وقلة المال .
- أن ينسوا الحر والذباب .
- أن ينسوا وجود عالم خارج قضبان الخمارة .
- أن ينعموا بملاطفة القط الأسود وهم سكارى .
- أن تصفوا نفوسهم ويتحرروا من كل شيء ، أن يفيضوا بالحب لأي شيء ، أن يتحرروا من التعصب والخوف ، يتطهروا من أشباح المرض والكبر والموت ، يتصورون في صورة منشودة ، يسبقون الزمن بقرون كاملة .
فجأة يدخل عليهم رجل غريب ومتجهم لا يعرفونه . يجلس على كرسي الخواجا نفسه .
للغريب حضور مقلق فهو قاتم وقوي ومخيف كأنه مصارع أو ملاكم او رافع اثقال .
يسكت الغناء وتنقبض الأسارير ويخمد الضحك . الغريب القوي يشرب النبيذ دفعة واحدة , يشرب ما يكفي لقتل فيل ولكنه يزداد تجهما وقوة . ويعاملهم بأقبح صورة للغضب .
أراد السكارى التعساء مغادرة الخمارة فهم لا يرغبون في القتال . ولكنه يمنعهم . ويسألهم : من أنتم ؟
قالوا : نحن زبائن المحل من قديم . ثم يمنعهم من الخروج . ثم يتحداهم للقتال , فردوا عليه انهم لا قوة لديهم للقتال .
ولكنكم سمعتم قصتي ؟
اقسموا له عدم سماعهم اي شيء وتوسلوا أن يتركهم يمضون في سبيلهم , ولكنه رفض الا حين يأتي الوقت المناسب .
ومتى يأتي الوقت المناسب لتتركنا نذهب ؟
يزجرهم فينزجرون .
ارادوا ان يقسموا له بأنه لم يسمعوا شيئا عن قصته . فقال وهل اصدق سكارى يقسمون بالله .
نقسم لك بأولادنا . ولكن لا قيمة لشيء عند زبائن خمارة حقيرة كذه الخمارة .
صحوا من سكرهم واقسموا له انهم مجرد اّباء صادقون ومخلصون . ولكن وصفهم بالأوغاد والانذال . والويل لكم ان تحركتم من اماكنكم أو حاولتم الخروج والمغادرة .
أي داهية ؟
أي ذل ؟
أي خزي؟
هو يعتقد أنهم كشفوا قصته . وهم أصلا لا يعرفون عنه أي شيء وفجأة صار يتحكم بحياتهم !!
كيف يتخلصوا من هذا الموقف المهين .
فجأة عادوا للشرب وعادوا للبؤس وتجاهلوا وجوده وقوته .واستيقظ القط الاسود وعاد يجول بين الطاولات .فتحللت الذاكرة ونفضت من خلاياها كل مكنونها .
سكروا حتى لم يعد الواحد يعرف صاحبه . وسأل أحدهم : هذا القط الاسود هو الشيء المحسوس وهو الخيط الوحيد الذي سيوصلنا الى الحقيقة .
هل يا ترى ان القط يعرف الحكاية ؟ وهل هو يتكلم أصلا ؟ ولماذا كان الاقدمون يعتبرون القط إلها وحفروا صورته مع الالهة ؟
نسوا وجود الرجل القوي المخيف الذي شتمهم وهددهم .
وحين نسوا انه موجود . مضى الرجل الغريب واختفى .