الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
من البديهي ان علم الاجتماع ليس علما أخلاقيا . فهو يدرس سلوك البشر ويتوقع مستقبل هذا السلوك دون ان يتدخل اذا كان هذا السلوك صحيحا او خاطئا .
و هناك ضرورات لازمة لحركة المجتمع وتغيّره أساسها الاقتصاد . ولا يجري محاكمتها من ناحية القبول أو الرفض عند مجتمعات أخرى ، وانما من خلال دورها في حركة التغيير ذاتها . ومع انتشار جائحة كورونا فقد البشر منظومة السعي نحو الكمال وعادوا الى مفهوم البقاء حسب هرم الاحتياجات الأساسية . ولكن !!!
لا يزال علماء الاجتماع حائرون في أمر أنّ كورونا ضاعف الاستهلاك رغم ان المتوقع هو العكس . ولم تجنح المجتمعات ولا الافراد الى تخفيف حالة الجشع الاستهلاكي بقدر ما رفعت درجة العدوانية في السلوك تجاه " الاخر" .
ومن خلال متابعتي لما ينشر الفلاسفة وعلماء الاجتماع في المجتمعات الاخرى حول الامر . اعتقد ان هناك حلقة مفقودة عند الجميع . حيث ان البشر صاروا يفكرون من داخل منازلهم وكورونا أفقدت المجتمعات الرغبة في التواصل والاختلاط بالمجتمعات الأخرى .
لا أريد ان اجنح واقفز فورا الى ( رغبة الافراد والمجتمعات الدائمة في تنفيذ محاولات انتحار فاشلة ) . لكن سلوك المجتمعات والرغبة في الحروب والتقاتل الدموي في تصاعد هائل . وليس الدافع هو المهم بقدر ما هو المؤثر . فوسائل الاعلام والحث المتواصل وضعت المجتمعات في حالة حث دائم ، وغالبا ما يعمل الافراد بعكس مصالحهم , وتعمل المجتمعات ضد مصالحها . وهذا غريب !!
داروين في إنجلترا ومن خلال نظرية ( البقاء للأصلح ) كان يقصد الأصلح في الانجاب والتكاثر . فكلما شعر الانسان بالخوف أكثر كلما ازدادت رغبته في الانجاب ، وهذا عكس نفسه على السلوك الاجتماعي والزواج وصولا الى شكل تكوين الاسرة باعتبارها خلية اقتصادية أولا ثم اجتماعية ثانيا . ولكن الغريب في الامر أن المجتمعات الغربية صارت تميل اليوم الى النفور من الاسرة والعزوف عن الزواج ، وتنتشر أفكار المثليين الجنسيين كالنار في الهشيم !!
المجتمع الإسرائيلي يتمزق طولا وعرضا بين مفاهيم الغرب الجامحة ومفاهيم الشرق العميقة . وهو يميل الى السلوك الانتحاري النابع من العدوانية المفرطة بحكم المؤثر والدافع معا . فالحروب أصبحت هي كل حياته وشكل بقائه وقوام اقتصاده .لدرجة أنه صار يبحث عن أعداء في داخله ليحاربهم ويقاتلهم كنظام اجتماعي عنصري .
اما المجتمع الفلسطيني وكنوع من الدفاع عن النفس وطلب الحماية . فقد صار يخلط سلوكيا بين مفاهيم البقاء ومفاهيم الفناء , ويخلط بين علم الاجتماع وعلم الاخلاق . فهو يتعامل مع علم الاخلاق بشكل اجتماعي ويتعامل مع علم الاجتماع بشكل أخلاقي ، ما يشكل خط انتاج قوي وفعّال لما يمكن ان نسميه الانتحار الاقتصادي المبرمج والخطير . ورغم ان دخل الاسرة يتراجع نجد ان متطلبات الاسرة تتضاعف !! ولبنان راهنا واليونان قبل عدة سنوات بلدان يصلحان للمقارنة ومثال متقدم عما سيحدث في المجتمع الفلسطيني في حال واصلنا السير بنفس الطريق .
ومع فشل السياسيين ، نشأت متلازمة تحطيم الاخر بشكل أقوى من مفهوم بناء الذات . فالمجتمع والافراد في إسرائيل يهتمون بتحطيم المجتمع الفلسطيني اكثر مما يكترثون لبناء مجتمع قابل للبقاء والتوازن .
وهذا خلق رد فعل تلقائي في المجتمع الفلسطيني باتجاه السعي الدائم والحثيث لتدمير المجتمع الإسرائيلي الذي حطّم مجتمعهم ( في علم الاجتماع لا يوجد شيء اسمه انتقام وانما هناك دافع ومؤثر ومثير ومستجيب ) .
ولمنع المجتمع الإسرائيلي من الاستقرار على انقاض مجتمعهم فقد صار سلوك الفلسطينيين مرتبط ارتباطا وثيقا في مفهوم سلّم النجاحات عند الإسرائيليين . بل وأهم من إنجاح الذات .
ولكن مقوّمات الاندثار في المجتمع الإسرائيلي صارت أكبر منها في المجتمع الفلسطيني . فالإسرائيلي يبحث عن ذاته في المكان الخاطئ ، بينما الفلسطيني يبحث عن ذاته في المكان الصحيح . ولكن في الوقت الخاطئ وبالأدوات الخاطئة .