الدكتور سهيل الاحمد
التواضع في العلم والتلقي من المصالح والمناقب، والتجاوز عنه أو إهماله من المضرات والمثالب، ولا يتأتى هذا الأمر إلا بامتثال قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، سـورة الزمر، الآية 9، والتعود على هذا المنهج من خلال احترام العلماء والتدرب على ذلك بمجالستهم ومخالطتهم، لأنهم ورثة الأنبياء، ومن بهم يتحقق الفضل والتوفيق والنجاح، ولا يؤخذ العلم إلا من طريقهم، لتحلي هذا الأخذ بالأدب مع العلم، حيث إن حصل منك المجافاة لهم أو امتنعت عن الإقبال عليهم؛ فلن تفهم المراد من العلم على أصوله، ولن تتمكن من الأخذ بروحه إلى جانب فقه موضوعه، وستبعدك قسوة القلب وغلطته عن العدل والفضل والحق المطلوب، وستخسر الاعتياد على أن يصبح العلم جزءاً من حياتك المرتبط بالتوجه نحوه بنية الإخلاص لله تعالى، مع التحلي بالتقوى والابتعاد عن الخطايا والذنوب، لهدف الضبط والإتقان وحسن المقصد، وتحقق المصلحة بالتثبت، والقدرة على النقل الصحيح، والتحاور الفصيح، لأن العلم قد ينسى عند وقوع الذنب وحصوله، ولذا ينصح العلماء طلبتهم باجتناب ذلك والبعد عنه بالقول لهم: "إن الله قد ألقى في قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية"، وهذا ديدن العلماء حال عرض العلم ونقله على طلبتهم ومخالطيهم حيث يكون في كل ذلك تقديم النصح والإشعار بالمسؤولية، مع عدم انتظار تقديس أو تعظيم لأن الواجب في حق المتلقي والمخالط أن يوقرهم ويقدمهم على غيرهم وأن يرفع مجالسهم ويظهر مرتبتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه"، رواه أحمد والحاكم، "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل"، شرح العقدية الطحاوية/554، وقال ابن عساكر في كتابه (تبيين كذب المفتري1/29): "واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته،وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومةٌ، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومةٌ، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناولُ لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم، والإقتداء بما مدح الله به قول المتبعين من الاستغفار لمن سبقهم وصفٌ كريمٌ، إذ قال مثنياً عليهم في كتابه وهو بمكارم الأخلاق وضدها عليم، "وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" سورة الحشر، الآية 10، والارتكاب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتياب وسب الأموات جسيم، "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (سورة النور، الآية63)، وعند ابن القيم (إعلام الموقعين،1/9): "فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خُصوا باستنباط الأحكام، وعُنوا بضبط قواعد الحلال والحرام؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب"، وهذه التصورات تظهر أن احترام العلماء - وفق المتصور الشرعي - قيمة حضارية وأن ذلك منهج الأخيار والطبع المقبول ممن يستمع إليهم أو يتلقى عنهم ويخالطهم من الناس، ولتقرير هذه القيمة، يقال: إنما نحترمك ما احترمت العلماء وتواضعت للأئمة، وهذا من قبيل مراعاة التطبيق العملي لما تتعلم، حيث يؤثر في قبول علمك وانتقاء قولك، لأنك تتلقى هذه المفاهيم والقيم من ورثة الأنبياء الذين لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، ولذلك فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وقد ركب مقدمات سلم الحضارة الذي لن يتحقق لنا تقدم ولا تطور أو استمرار إلا من خلاله وبامتثاله.