الكاتب:
وليد الهودلي
لم تهن الحركة الاسيرة ولم تهزم أو ترفع الراية البيضاء بمجملها في يوم من الأيام، صحيح أنها تتراجع وتتقدم، تعلو وترتفع وتيرة المواجهة أحيانا وتهبط وتتردّى أحيانا أخرى ولكنها أبدا لم تستسلم ولم تلق سلاحها، وذلك بأنّ العدو واضح وواضح أكثر ماذا يريد للمعتقل الفلسطيني في سجونه، يريد باختصار كلّ شيء من شأنه أن يسوّي كرامة الانسان الذي يواجه بالأرض، يريد تفريغه من محتواه الفكري والوطني والقيمي وتحويله الى مجرّد خردة بشرية لا قيمة لها ولا دور ولا تاثير في مجريات الحياة العامة، أثناء فترة وجوده في السجن حيث يعتبره محضنا لصهر الوعي والتدمير النفسي المريع، وبعد خروجه ليستمر في صيرورة تسيّر ما تبقى من عمره على ما صنعه السجن والسجّان في أعماقه.
وبتجرّد موضوعيّ وجدنا من تخرّج من سجون الاحتلال وقد وصل السجّان معه الى كلّ أهدافه، أقلّها أنه لم يبق له في الحياة الا حياته الخاصّة دون أن تعنيه القضية التي سُجن من أجلها لا من قريب ولا من بعيد، وإذا أردنا أن نتجرّد أكثر وأكثر (بعيدا عن العاطفة والبطولية التي يحلو للبعض أن يتغنى بها فتعميه عن رؤية الواقع كما هو) فإننا نجد من صار متفهّما للمشروع الصهيوني وصار ينظر اليه نظرته "للآخر" الذي يختلف معه على وجهات نظر يسهل بلعها وتجاوزها، وبالمقابل وجدنا من خرج من السجن وقد فشل السجان من الوصول لأي هدف من أهدافه، نجده وقد ازداد وعيا وتماسكا ومتانة وانتماء، وازدادت قدراته على خدمة قضيته التي سُجن من أجلها وبقيت عامرة وشعلة متقدة في صدره.
تبدأ معادلات الصراع في زنزانة المعتقل في تحديد هويّة هذا الصراع: هل هو مطلبي لتحسين ظروف السجن المعيشية؟ أم هو سياسي يريد تحقيق الحرية؟ أو هو الامرين معا أو تارة يتغلّب هذا وتارة ذاك؟ وكذلك من هذه المعادلات كيف يحقّق المعتقل ذاته الوطنية وهويته الثقافية وكرامته الانسانية وكيف يحافظ على هذه الذات دون أن تنالها قدراتهم الخارقة على التشويه والتغيير والتبديل والتفريغ؟ ثم ما هي أدوات ووسائل المعتقلين وما مدى قدرتها وفاعليتها في مواجهة أدوات ووسائل السجّان اللئيم؟
وفي رحى هذه المعادلات تتحرك إرادة المعتقلين ويحتاج الامر الى توظيف الخبرات التراكمية في هذا الصراع الكمّي والنوعي وما نجح منها وما فشل، وكذلك تلعب دورا هامّا توفّر الحنكة والذكاء في إدارة الصراع فالموضوع فيه بالإضافة الى صراع الارادات صراع الادمغة ووفرة الحسّ الامني الذكيّ الذي يمنع الوقوع في شركهم والاعيبهم الماكرة.
وقد خبرت التجربة المعتقلين طبيعة هذا العدوّ المجبول على المكر والخداع والتنكّر للاتفاقيات والقدرة على الالتفاف عليها وتفريغها من مضامينها وإجادة اللعب على الوقت والمماطلات التي تهدر الجهد والوقت والقدرة الفائقة على الاشغال واللعب في مسائل فرعية ليست ذا بال على حساب المهمة والجوهرية مع تضخيم ما يبدوا انه تنازل منهم على أنه جبال من الإنجاز بينما هو لا يزن النقير الذي تحدث القران فيه عن اجدادهم. ( والذين بالمناسبة لا يقارنون بصهاينة هذا الزمان إذ أن السابقين اقلّ مكرا وسوءا.)
والمعادلات التي يسير عليها سجان الزنزانة الصغيرة لا تبتعد كثيرا عن معادلات سجان الزنزانة الكبيرة، أذكر أن أوّل وفد فلسطيني زار سجن جنيد بعد أيام من دخول السلطة الفلسطينية، سالناه عن الافراجات وما يتعلّق بالاتفاق على ذلك فقالوا ان هذا تحصيل حاصل وقد تم الحديث في هذا الموضوع ولم يكن هناك نص مكتوب. طيبة القلب! هذه عند الفلسطيني اصطدمت بعراقيل لا نهاية لها في موضوع الافراجات الكلّ يعلمها وأصبح اتفاق أوسلو كما قيل عنه ان كل كلمة فيه تحتاج الى اتفاق، هم يجيدون الالتفاف على النصوص الواضحة والمحددة فما بالنا بالمتروكة لحسن النوايا، يجيدون تفريغها من مضمونها وحرفها عن أهدافها وهذه هي طبيعتهم وجبلتهم النّكدة.
وتجوز المقارنة تماما بين المُعتقلًين وإجراءات ذات السجان فيها، فالسجان يتحكم تحكما كاملا في حركة المعتقلين وأكلهم ومسكنهم وحتى الهواء الذي يتنفسونه، وفي الزنزانة الكبير يتحكم أيضا في حركة الناس وله من الحواجز ما يجعل الضفة منافي مغلقة خلال دقائق، ويتحكم في حركة ارزاقهم والاستيراد والتصدير والتحكم في مصير أراضيهم ومياههم واجوائهم ومعابرهم وحركة أسفارهم..... الخ هي حياة المعتقل بين صغيره وكبيره في ماكينتهم العنصرية السوداء سواء.
الان بعد ربع قرن من تلك الاتفاقيات البئيسة يصلون بها الى أفق مسدود والى استحالة فتح أفق سياسي يعيد بعض الاعتبار للحق الفلسطيني، وقد ضيّعوا بالمناسبة فرصة تاريخية لصالحهم إذ رضيت السلطة الفلسطينية بدولة على حدود الرابع من حزيران أيّ بالتنازل عن ثمانية وسبعين بالمائة من فلسطين خالصة لهم. هم الان أوصلوا الامور لتكون المعادلة مطلبية مداها تحسين الأوضاع المعيشية منزوعة الكرامة (البهيمية) ولا يريدون خيرا للمسار السياسي أبدا ولا أيّ خير للمسار الذي يلبّي الحدّ الأدنى من كرامة الانسان وكل ما له علاقة بمحتواه الفكري والوطني والقيمي. ينظرون الى المجتمع الفلسطيني على أنه خردة بشرية لا قيمة لها ولا دور ولا وزن ولا انتماء وطني ولا أمل لوجود لدولة فلسطينية ذات سيادة حرة ومستقلة باي حال من الأحوال. تماما كما ينظر السجان للمعتقلين بذات النظرة وذات الطريقة في التعامل وقواعد الاشتباك ومعادلات الرضوخ والإهمال والتفريغ، يريدون للفلسطينيين أن يكونوا مجرد تجمعات بشرية من العبيد والاستجابة المطلقة للأهواء الصهيونية المنحرفة وإن كان ولا بدّ فبعض الفتات وما من شانه أن يوصف بان له علاقة بالأوضاع المعيشية البهيمية والتي ترتضيها الخراف والماعز ومزارع الارانب تماما كما أراد السجان وفق منهجيته في التعامل مع الاغيار وطبيعته العنصرية السوداء.
وكما امتشق معتقلنا بإرادته وثبّت قواعد اشتباك ومعادلات تتغلّب في كثير من الأحيان على سجّانه وأثبت إنحيازه التام لقضيته وهويته الثقافية وروحه الإنسانية العالية رغم القيود العاتية وجدران السجن القاهرة. تماما في المعتقل الكبير يربض شعب حرّ قادر على اثبات ذاته في أقسى ظروف الاحتلال، هذا الشعب الحرّ يثبت جدارته للحياة واستعصائه على كل محاولات النفي والالغاء، هذا ليس مجرد أمل عابر أو شعار لامع وإنما هو حقيقة على الأرض ظهرت على شكل انتفاضة حينا وهبة تلو الأخرى في أحيان متعددة، ومقاومة رست قواعدها بكل صلابة وثبّتت قواعد اشتباك لن يبقى فيها السجان سجانا ولا المعتقل معتقلا.