الإثنين: 18/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

تصنيف الاحتلال لمؤسسات حقوقية فلسطينية بالإرهابية المخاطر والتحديات والمسؤولية الفلسطينية

نشر بتاريخ: 26/10/2021 ( آخر تحديث: 26/10/2021 الساعة: 11:30 )

الكاتب:

بقلم: جمال زقوت

أثار إعلان وزير الجيش الإسرائيلي "غانتس" بتصنيف ستة مؤسسات حقوقية فلسطينية بأنها إرهابية؛ استنادًا إلى ما يُسمّى "قانون مكافحة الإرهاب لعام 2016"، ردود فعلٍ واسعة على الصعيد الدولي وحتى الإسرائيلي. وقد تركّزت هذه الردود بصورة أساسية على التعسُّف الذي يُظهر مدى الاستخفاف بحالة حقوق الإنسان الفلسطينية ودور المؤسسات العاملة في هذا المجال، سيّما للمكانة الهامة التي تحتلها بعض، بل معظم، هذه المؤسسات، ودورها المهني الريادي في الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني، محليًا وعلى صعيد منظومة ومؤسسات حقوق الإنسان الدولية، وبعض وكالات الأمم المتحدة مثل مجلس حقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، والتي عبّرت هي الأخرى عن رفضها لهذا القرار.

إن تجرّؤ وزير الحرب الإسرائيلي على استخدام ما يسمى "قانون مكافحة الإرهاب لعام 2016" على مؤسسات تعمل تحت ولاية السلطة الوطنية، وإشرافها الإداري ووفقًا للقوانين الفلسطينية، يُشكّل إعتداءً، ليس فقط على هذه المؤسسات ومنظومة حقوق الإنسان والمجتمع الفلسطيني برمّته فحسب، بل إنه في الواقع يشكل انتهاكًا إضافيًا خطيرًا يُلغي رسميًا الولاية القانونية للسلطة الوطنية الفلسطينية ودورها في مجرد إدارة شؤون الفلسطينيين، حتى بمفهوم الحكم الذاتي الذي بموجبه تشكّلت السلطة الوطنية وما زالت تعمل على أساسه.

إن هذا الإعلان يضع السلطة الوطنية أولًا، ومعها كافة الأطراف الإقليمية والدولية، أمام تحديّاتٍ استراتيجية؛ يأتي في مقدمتها مكانة ووظيفة السلطة الفلسطينية من حيث كونها مسؤولة عن إدارة شؤون الفلسطينيين في الأرض المحتلة، والتي، باستثناء اتفاق أوسلو لهذا الدور والمسؤولية المباشرة عن شعبنا في القدس وإخراج الانقسام لهذه المسؤولية المباشرة عن أهلنا في قطاع غزة، فإنها واقعيًا باتت تنحصر في باقي مناطق الضفة الغربية داخل تصنيفات "أ، ب" فقط، ليأتي هذا القرار الأكثر خطورة، فيُلغي، عمليًا، الولاية القانونية للسلطة الوطنية حتى على ما تعتبره حكومة الاحتلال مسؤولية إدارية للسلطة على سكان المدن والبلدات الواقعة داخل ما يسمى تصنيفات "أ،ب"، خاصة أن جيش الاحتلال كان قد ألغى ومنذ 28 سبتمبر لعام 2000 المسؤولية الأمنية للسلطة الفلسطينية عن هذه المناطق، وحوَّل ما يُعرَف "بالتنسيق الأمني"، الذي كان جوهره يمنع إسرائيل من القيام بمسؤلية أمنية مباشرة داخل ما يسمى مناطق "أ"، إلى مجرد تعاون باتجاه واحد لحماية أمن إسرائيل والاسرائيليين، دون أي اهتمام أو اكتراث بأمن الفلسطينيين، أو مكانة وولاية السلطة الفلسطينية على هذه المناطق، رغم أنه كان من المفترض لهذه الولاية أن تمتد لتشمل كامل الضفة الغربية في منتصف عام 1997، أي بعد ثمانية عشر شهرًا منذ تنصيب أول مجلس تشريعي للسلطة في يناير 1996، في وقت أن الولاية القانونية بدأت منذ تنصيب هذا المجلس.

إذًا كما هو واضح، فإن حكومة الاحتلال تضع بإعلان هذا القرار أمام السلطة الوطنية، ليس مجرد تحديّات إزاء كيف يمكن لها مواجهته أو احتوائه، بل في الواقع، فإنه يضعها أمام سؤال مكانتها القانونية في علاقتها مع الاحتلال، وكذلك في جوهر وظيفتها لرعاية مصالح الفلسطينيين السياسية والقانونية، بل والدفاع عن حقوقهم الوطنية؛ حيث أن تنفيذ قانون ما يسمى "مكافحة الارهاب لعام 2016، على مناطق السلطة الفلسطينية إنما يشكل ضمًا قانونيًا لهذه المناطق، وفي نفس الوقت إلغاء لمكانة السلطة الوطنية الاعتبارية، وفي أحسن الأحوال فإنه يبقيها كامتداد أو مجرد وكيل لحكومة الاحتلال وإدارته المدنية التي أعيد العمل بها "كحكومة مدنية" لجيش الاحتلال في الضفة الغربية. هذا هو جوهر القرار وما يطرحه من أسئلة وتحديات على جميع مكونات المجتمع والشعب الفلسطيني، خاصةً السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية التي سبق وأبرمت الاتفاقات "المنتهكة" مع اسرائيل، والتي تشكل في نفس الوقت مرجعية السلطة الوطنية وفقًا لقرار المجلس المركزي بتأسيسها في 12 أكتوبر 1993، والذي صادق في نفس دورته على إعلان المبادئ.

إن إعلان هذا التصنيف يتجاوز في بُعديْه القانوني والسياسي، الانتهاكات للاتفاقيات الموقعة، التي دأبت حكومة الاحتلال على القيام بها منذ اليوم الأول لإنشاء السلطة الوطنية، أو تلك التي تمارسها وفقًا لقرارات عسكرية منذ سبتمبر لعام 2000، والتي تمادت فيها لتشمل هدم بيوت واجتياحات وإغلاق مؤسسات ومصادرة أموال واعتقالات، ومنع سفر وغيرها من الانتهاكات، والتي في الحقيقة كان لصمت وتهاون السلطة على مثل هذه الأعمال، والتعامل معها وكأنها أمر واقع مقبول، ويُشكل جزءًا من حياة الفلسطينيين اليومية، مشجعًا لتمادي اسرائيل وصولًا لهذا الإعلان، وكأنه لا وجود للسلطة الفلسطينية إلا للقيام بما لا تريد اسرائيل تحمُّل مسؤوليته، تمهيدًا لحصر دورها بما تريده اسرائيل منها فقط، وبما يشمل سؤال الحقوق المدنية للسكان، وبهذا المعنى؛ فإن اسرائيل لا تلغي فقط مكانة السلطة الوطنية، بل وتُكرس مكانةً بلا أي مرجعية قانونية للمواطنين الفلسطينيين تعيدهم لمكانة "البلا" التي كانت تدونها على ما كان يعرف بوثيقة "اللاسيه باسيه" الصادرة عن الإدارة المدنية، والتي ما زالت تُصدرها داخلية حكومة الاحتلال لبعض سكان القدس.

دون قراءة هذا الإعلان بهذا المضمون، وما يحمله من مخاطر وتحديات وجودية لمكانة السلطة الفلسطينية، والتي إن تعاملت معه كما الانتهاكات الأخرى السابقة، فهي فعليًا بذلك تكون قد كرَّست قبولها لدور الوكيل لمسؤوليات "الإدارة المدنية"، وبهذا فهي تقبل بتجريد المواطن الفلسطيني من حقوقه التي كفلها القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، في إطار المسؤوليات المفروضة على قوة الاحتلال، وهذا ما يتطلب التوقف أمامه بكل جدية ومسؤولية، وفي مقدّمته وقف نزيف الانقسام الذي شكّل مصدرًا جوهريًا لتمادي الاحتلال بارتكاب مثل هذه الجرائم العنصرية. فجريمة بهذا الحجم، تستهدف مكانة وحقوق الفلسطينيين بمضمونها، وتُشكل امتدادًا لما يسمى "بقانون القومية" الذي يحصر حق تقرير المصير في هذه البلاد لليهود دون غيرهم، تستوجب من القيادة الفلسطينية التوقف مليًا أمام أبعاده المباشرة والاستراتيجية، وأن تتقدم دولة فلسطين العضو المراقب في الأمم المتحدة بمشروع قرار لمجلس الأمن لفضح الطابع العنصري الذي يقف خلف هذه السياسة الاسرائيلية لردع حكومة الاحتلال عن مخططاتها لتذويب الهوية الوطنية والتمادي في انتهاكاتها لحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية وجرائمها ضد حقوق الإنسان في فلسطين.

إن المواقف الرسمية الأولية التي صدرت حتى الآن تُشكل خطوة في الاتجاه الصحيح؛ إذا استُكملت بخطوات سياسية وقانونية ملموسة لمواجهة مخاطر هذا القرار على السلطة نفسها، بالإضافة لحالة حقوق الانسان في فلسطين. بينما الإكتفاء ببيانات التنديد، أو قصر نظر البعض بالتعامل مع هذا القرار وكأنه مجرد استهداف اسرائيلي لمؤسسات ليست على وفاق مع سياسات وممارسات السلطة ومؤسساتها الأمنية تجاه حالة حقوق الإنسان الفلسطيني، ودأبت على القيام بواجبها في مواجهة انتهاكات السلطة لهذه الحقوق، فإن مثل هذه النظرة، إن وجدت، تشكل خطرًا داهمًا على الكل الفلسطيني، بما في ذلك على كيانية السلطة ذاتها. كذلك الأمر بخصوص التعامل مع الموقف الأمريكي الحذر إزاء القرار؛ والذي لم يتجاوز حتى الآن الامتعاض من أثره على حقوق الإنسان، وأنه لم يتم التشاور معها بشأنه، دون الالفتات لمضمون الخطر الاستراتيجي لهذا القرار حتى إزاء المواقف المعلنة والضبابية، كالحديث عن الالتزام بحل الدولتين. ذلك كله يفرض مضاعفة الجهود الفلسطينية على الصعيدين الرسمي والأهلي وفق خطة متكاملة من الجميع، وكلٍ من موقعه لمواجهة هذا القرار بهدف كسره وإلغائه، وبما يشمل، ابتداءً، التوقف الكامل عن أي إساءة لحقوق الإنسان داخليًا، وتصويب الرؤية لمؤسسات المجتمع المدني باعتبارها شريكًا أصيلًا في معركة صمود المواطن الفلسطيني التي يجب أن تشكل عصب السياسة والاستراتيجية الفلسطينية في إطار رؤية وطنية متكاملة على الصعيدين الرسمي الموحد والشعبي عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية، وقيادة وطنية موحدة في إطار منظمة التحرير وهمّها الأساسي تعزيز صمود الشعب ووحدته، واستعادة مكانة القضية الوطنية، وحقوق الشعب الفلسطيني كشعب يناضل من أجل انتزاع حقه الطبيعي في تقرير مصيره وتجسيد حقوقه على أرض وطنه كباقي شعوب الكون.