الكاتب: اياد اشتية
استوقفتني رائعة نزار قباني "اعترافات رجـل نرجســي"، تلك القصيدة المزدحمة بالمعاني المبتدئة بالصراع النفسي القائم على حالة الاضطراب التي يعيشها الرجل على مستوى العلاقة العاطفية التي يتأرجح فيها قباني بين حالتي: الفهم الشرقي للحبّ التي تمنحه إياه سلطة ذكوريّة الرجل، وحقيقة ضعفه الذي جعل منه إنساناً لا يعرف ما يريد، وصولاً للإقرار بعد ثلاثين عاماً بأن سبب ما وصل إليه من حالة عدم الاستقرار بأنَّها النرجسيّة التي جعلت منه إنساناً لا يرى غير صورة ذاته.
ثلاثين عاماً ولم يدرك رجل القصيدة النرجسي أن لديه اضطراب في الشخصية لأن طريقة تفكيره وتصرفاته بدت طبيعية بالنسبة إليه. وأمكنه ذلك من إلقاء اللوم على الآخرين للتحديات التي واجهها.
إن العديد من التفسيرات النظرية انطلقت في محاولاتها لفهم بعض الاضطرابات والظواهر من خلال الرجوع إلى أساطير يونانية، ومن أهم هذه الظواهر نجد النرجسية، والتي ترجع إلى أسطورة "نرسیس"، أو ما يسمى أيضاً بـ "نرجس" يسمح لنا الفهم الجيد لتداعيات هذه الاسطورة وكيف أدرجت في تشخيص الاضطراب النرجسي من قبل علماء علم النفس حيث أن "نرسيس" كان شاباً فائق الجمال، يعيش مع أمه "ليروب" التي هجرها والده، اتصف بأنه كان متكبراً ومغروراً، لا يحب أحداً غير نفسه، وتروي الاسطورة أن جميع الحوريات أغرمن به، ففي أحد الايام ضل "نرسيس" طريقه ورأته إحدى الحوريات والتي تدعى بـ "ايكو" وأعجبت به وأرادت التحدث معه إلا أنها كانت خرساء وإنما تردد فقط الكلمات الأخيرة كصدى الصوت، كان "نرسيس" لا يعرف إلى أين يتجه ثم صاح بصوت عال:
هيه من هنا؟
تردد ايكو: هنا
صاح نرسيس: تعال هنا.
ردت ايكو: هنا.
يصيح من فرط الدهشة: إلى هنا، بسرعة عندي.
ردت ايكو بفرح: عندي.
أسرعت الحورية ايكو إلى نرسيس لكنه رفضها بغضب، إذ اعتقد أنه ما من حورية تصلح له، إلا أن تمنت إحدى الحوريات اللواتي رفضهن قائلة:" ألا فلتقع بدورك في الحب يا نرسيس! وليكن الذي ستقع في حبه لا يبادلك الحب"، وتحققت أمنية الحورية. ففي أحد الايام ذهب نرسيس لجدول ماء وكان ذلك الجدول نقي وصافي جداً كالمرآة ولم يسبق أن وقع فيه شيء، انحنى "نرسيس" وأنذهل بصورته في الماء، ومن شدة حبه لنفسه واعجابه بها لم يعد يغادر الجدول، إلا أن بدأت تخور قواه، حتى مال رأسه على أعشاب الضفة الخضراء، ومات نرسيس، فبكت الحوريات وايكو أيضاً وأعدت الحوريات القبر له، لكنهن حين جئن لأخذ جثمانه لم يعثرن له على أثر، حيث في مكان "نرسيس" نمت زهرة بيضاء عبقة إنها زهرة الموت، وقد سميت بزهرة "النرجس".
إن الهدف من التطرق لأسطورة "نرجس" هو توضيح كيف استخرجت الدلالات النفسية للأسطورة وعلى أي أساس وظفت في علم النفس، فمن خلال تحليل شخصية "نرجس" وجد أن الأسطورة تعالج مجموعة من المواضيع منها العلاقات الاسرية وتأثيرها على شخصية الطفل وعلى نرجسيته، فكلما كانت العلاقات طيبة داخل الأسرة كلما قللنا من خدش النرجسية.
إن الشخصية بما تحتويه من سمات نجدها خليطاً من الصفات التي تميز بها فرد عن آخر، ومن بين هذه السمات نجد النرجسية كجانب نفسي، انفعالي، عقلي، اجتماعي، وتوجد النرجسية لدى جميع الأفراد لكن بدرجات متفاوتة، فتظهر أكثر في مرحلتي الطفولة المبكرة والمراهقة، فالطفل في بداية حياته يركز على ذاته ويحب أن يكون مركزاً لانتباه الآخرين، إلا أنه في نفس الوقت لا يستطيع الاستغناء عن الاعتمادية، وهذا ما يعمل على ثبات النرجسية السوية لديه، أما في مرحلة المراهقة فتكون للتغيرات الحاصلة دوراً مهماً في تشكيلها خاصة تلك التي تتعلق بصورة الجسد وتكوين الهوية وفهم الذات، فالمراهق يحتاج إلى درجة من النرجسية التي تعمل كدفاع من أجل زيادة ثقته بنفسه ومنحه تقدير ايجابي لذاته، وفي هذه الحالة تعتبر نرجسية صحية وخاصية من خصائص المرحلة.
إذ لا بد من أن تبقى مستويات النرجسية في حدود السواء لا أن تزيد حدتها وتتخذ مجرى آخر لتصبح اضطراباً في شخصية الفرد، حيث تعرف الشخصية النرجسية على أنها نموذج شامل لتعظيم الذات والتركيز عليها، بمعنى أن المبالغة في حب الذات وانجازاتها. فهي نمط دائم ومستمر من السلوكات المعظمة للذات والتي تؤثر سلباً في العديد من مجالات الحياة المختلفة بما فيها العلاقات الاجتماعية والأسرية والمهنية، بالتالي هي طراز ثابت من العظمة (في الخيال والسلوك) والحاجة إلى التقدير، والافتقار الى القدرة على التفهم العاطفي يظهر في مجموعة من السياقات.
تشخيص النرجسية كاضطراب:
النرجسية نمط ثابت من الشعور بالعظمة والحاجة إلى الاعجاب ونقص التقمص العاطفي يبدأ في الرشد المبكر ويبتدئ في العديد من المواقف ويستدل عليه إذا توافرت خمسة من الآتية: شخص لديه شعور عظمة بأهمية الذات (يبالغ في إنجازاته)، ومستغرق في خيالات عن النجاح اللامحدود أو القوة أو التألق أو الجمال أو الحب المثالي. ويعتقد أنه متميز وفريد، ويمكن فهمه أو يجب أن يُصاحب فقط من قبل أناس مميزين أو من طبقة عليا. كذلك الأشخاص الذين يستثيرون اعجاب زائداً، ولديهم شعور بالصدارة أي توقعات غير معقولة عن معاملة تفضيلية خاصة أو الامتثال التلقائي لتوقعاته، إضافة إلى استغلال الآخرين لمصالح ذاتيه، وافتقاد التعاطف والحنو والشفقة ولا يستطيعون التوحد مع احتياجات وأحاسيس الاخرين. وحسد شديد ومزمن ودفاع عن هذا الحسد مثل تحقير الآخرين والقدرة المطلقة، وأخيراً، ادعاء الفهم في كل شيء وتسخيف الآخرين وافعالهم وآرائهم، وإعطاء قيمة مثالية عالية لما يفعلون ويقولون.
ويصنف اضطراب الشخصية النرجسية ضمن اضطرابات الشخصية الفئة (B)، إذ إن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الشخصية من النوع (B) يجدون هناك صعوبة في الارتباط بالأخرين. وبالتالي، فإنهم يظهرون أنماط سلوكية يعتبرها الآخرون دراماتيكية، تهديدية أو مزعجة. وتتضمن هذه الاضطرابات إلى جانب اضطراب الشخصية النرجسية، اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، واضطراب الشخصية الحدية، واضطراب الشخصية الهيسترية.
عوامل الخطر
على الرغم من أن السبب الدقيق لاضطرابات الشخصية بشكل عام غير معروف، إلا أن بعض العوامل يبدو أنها تزيد من خطر تطور أو تسبب اضطرابات في الشخصية ومنها الشخصية النرجسية، بما في ذلك: تاريخ العائلة من اضطرابات الشخصية أو غيرها من الأمراض النفسية، وانخفاض مستوى التعليم وانخفاض الوضع الاجتماعي والاقتصادي، والتعرض للإساءة اللفظية أو الجسدية أو الجنسية أثناء الطفولة، وإهمال أو حياة عائلية غير مستقرة أو فوضوية أثناء الطفولة، إضافة إلى وتباين كبير في كيمياء الدماغ وتركيبه.
التدخل الارشادي
يعتمد التدخل الارشادي مع اضطراب الشخصية النرجسية على الارشاد بالمحادثة، من خلال تحسين التواصل مع الآخرين بحيث تكون علاقاتك أكثر حميميةً ومتعةً وإرضاءً، وفهم أسباب انفعالاتك والباعث لديك على منافسة الآخرين أو انعدام الثقة بهم، أو ربما احتقار نفسك والآخرين، ومن أفضل التدخلات الارشادية مع اضطراب الشخصية النرجسية ما يلي:
أولاً: الارشاد السلوكي الجدلي (DBT)، يقدم الإرشاد الجماعي جنباً إلى جنب مع الارشاد الفردي، ويمكن أن يكون فعال للغاية، يقوم هذا الارشاد بتعليم مهارات جديدة لمساعدتك على إدارة العواطف، وتحسين طريقة التفاعل مع الآخرين. فهو يساعد على تغيير السلوك الذي يسبب لك معظم المشكلات حتى تتمكن من التعامل بشكل أفضل مع الأزمات اليومية.
ثانياً: الارشاد السلوكي المعرفي (CBT)، إذ يساعد على فحص نمطك المعتاد من الأفكار والمواقف، ويسمح لك بتحدي الأفكار والمعتقدات اللاعقلانية التي تسبب لك المشكلات.
ثالثاً: الارشاد التحليلي المعرفي (CAT)، حيث تركز على تطوير العلاقات، وعلى المشكلات التي تواجهها في تشكيل العلاقات، والعادات التي حصلت عليها فيما يتعلق بكيفية تفكيرك، وتشعر وتتصرف مع الآخرين. سوف يساعدك المرشد على فهم مشاكلك وكيف تطورت.
رابعاً: الارشاد النفسي الديناميكي الذي يركز على العلاقة بين المسترشد والمرشد، ويمكن أن يساعدك على إدارة علاقاتك مع الآخرين وتحسين الطريقة التي تشعر بها تجاه نفسك.
خامساً: الارشاد الفكري (Metallization): يركز هذا الشكل من الارشاد على تطوير فهمك لنفسك وكيف يشعر الآخرون. ويهدف إلى مساعدتك على تنظيم العواطف والدوافع، وتطوير علاقات مجدية ومفيدة.
سادساً: الارشاد الجماعي: يمكن أن يكون الارشاد الجماعي مفيداً لأي شخص يفضل تجنب المواقف الاجتماعية أو الذين يعتمدون كثيراً على شخص آخر. قد يكون للمجموعات أهداف عملية للغاية، مع التركيز على ممارسة المهارات الاجتماعية والتدريب على تأكيد الذات. إذا كنت تميل إلى تكوين علاقات مكثفة أو خاصة، أو علاقة فردية فيمكن أن تتيح لك المجموعة تجربة علاقات مختلفة، وتوسيع نطاق مجموعة المرفقات الخاصة بك لأشخاص آخرين. قد يشمل الارشاد الجماعي الارشاد الاجتماعي لحل المشكلات، والذي يهدف على وجه التحديد إلى تعزيز ثقتك الاجتماعية ومساعدتك على الحد من السلوك المتهور. يفعل ذلك من خلال تعليمك للتوقف والتفكير والتخطيط لأفعالك.
ختاماً، لنجري عملية تقييم ذاتية بكل موضوعية وشفافية، فالنرجسية سهلة التعريف، صعبة القياس، ولا أحد أدرى منك بذاتك، فلنبدأ.. ولا حاجة للانتظار ثلاثين عاماً لنكتشف الأمر.