الكاتب: د.أحمد سلامي كبها
تناقضات الرأسمالية متعددة المظاهر، ولكن التناقض الأعمق في أي نظام رأسمالي هو التناقض الطبقي، أي التناقض بين الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية. وهذا التناقض ليس تناقضا مؤقتا أو طارئا، بل هو ملازم لأي نظام رأسمالي. فمصالح الطبقة العاملة تتناقض بالكامل مع مصالح الطبقة البرجوازية المالكة لرأس المال. ففي النظام الرأسمالي، يستحوذ المالكين لرأس المال على فائض القيمة ويتركون الفتات للطبقة العاملة على شكل أجور لا تتناسب وقيمة العمل الذي يقدمونه، والذي هو السبب في إنتاج فائض القيمة. ولو أردنا تقدير حجم الاستغلال الذي تتعرض له الطبقة العاملة بالأرقام، فإننا نستطيع التخمين بأن العامل ينتج فائضا يعادل خمسين ضعفا لما يتلقاه من أجور. وقد أثبتت التحليلات التي قدمتها الماركسية في الاقتصاد السياسي بأن رأس المال الذي يستحوذ عليه الرأسمالي هو في حقيقة الأمر مجموع عمل العمال وتعبهم وعَرقهم. ضمن هذا التصور نستطيع تخمين الصراع والتناقض الذي ينخر النظام الرأسمالي ويُهدِّد بتقويضه. ولهذا السبب، فإن الرأسمالية دائمة البحث عن حلول لهذا التناقض المريع، ومن أهم هذه الحلول هو تصدير التناقض خارج العالم الرأسمالي. وبناء على ذلك، فإن منطقتنا العربية أصبحت أشبه بمكب النفايات الذي تلقي به الرأسمالية أزماتها وتناقضاتها. لقد كانت الظاهرة الاستعمارية برمتها هي تصدير لأزمة حادة في النظام الرأسمالي، حيث بادرت النظم الرأسمالية لتوجيه الشعوب الغربية في احتلالات وحروب خارج أراضيها، وخلقت لها عدوا مزيفا، لذرّ الرماد في العيون وصرف النظر عن العدو الحقيقي الذي هو البرجوازي المستغل الذي يلتهم فائض القيمة لهذه الشعوب.
بالرغم من أن الصراع بين الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية كان هو المهيمن في العالم الرأسمالي، إلا أنه برز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مظهراً آخر من مظاهر الصراع، والمتمثل بالصراع التنافسي بين البرجوازية الأوروبية والبرجوازية اليهودية، وقد كان هناك جهداً دؤوباٍ من قِبل الرأسمالية الغربية لإخراج اليهود من أوروبا للتخلص من حالة المنافسة التي شكلتها البرجوازية اليهودية. فقد انتشرت في أوروبا حركة عداء لليهود بسبب الإعتقاد بأنهم سبب الأزمة الإقتصادية التي كانت تضرب أوروبا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وقد كانت حركة العداء للسامية تُدار بواسطة الرأسمالية الغربية من أجل امتصاص نقمة الجماهير المتأثرة بالأزمة، وتحويل وزر الأزمة لليهود. وقد لاحظ مؤرخو هذه الحقبة أنه كلما حصل انكماش إقتصادي قوي في بلد ما بسبب فوضى الإنتاج والتوزيع في النظام نفسه أسقطت حركة العداء للسامية اللوم على اليهود، وبرأت النظام الرأسمالي وأصحابه من الويلات.
ضمن السياق السابق يمكن فهم الوعد المشؤوم الذي قدمه بلفور لإقامة دولة قومية لليهود على أرض فلسطين. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، بادرت القوى الرأسمالية العالمية لإنشاء الحركة الصهيونية والتي أوكلت لها مهمة تجميع اليهود من شتى أصقاع الأرض وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين حيث ينتظرهم وطن جديد هناك. وقد استعانت القوى الرأسمالية بالاستشراق من أجل اختراع سردية تاريخية حول حق تاريخي لليهود في فلسطين يرجع لثلاثة آلاف سنة. ومن المعروف أن حركة الاستشراق برمتها كانت تعمل لتحقيق هدف واحد وهو تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن بلادنا لتسهيل السيطرة عليها واستعمارها. وقد أدت الحركة الاستشراقية دورها بكفاءة عالية وقامت باختراع الرواية التوراتية حول وطن الأجداد وأرض الميعاد. وهكذا أصبحت الحركة الصهيونية أداة فعالة بيد القوى الرأسمالية من أجل تهجير اليهود بالإقناع والوعود إضافة للتهديد والوعيد. وترجمة لما سبق فقد أقدمت الحركة الصهيونية على تنفيذ الكثير من العمليات الإرهابية في بلدان عربية كثيرة ونسبتها للعرب، كما إستغلت الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود على يد الأحزاب الفاشية والنازية الأوروبية.
لم تتأخر قوى الرأسمالية العالمية في تنفيذ مخططها، حيث بادرت بدون تلكؤ أو تأخير إلى ضخ المهاجرين اليهود لفلسطين بمساعدة الحركة الصهيونية، حتى خلقت واقعا سكانيا جديدا خلال أقل من عقدين من الزمن. وبالرغم من الثورة العظيمة التي قادها الفلسطينيون في العام 1936 والأعوام التي تلتها، إلا أن الكيان الصهيوني كان قد ترسخ بالفعل على الأرض الفلسطينية وأصبح له مؤسساته على كافة الأصعدة المدنية والعسكرية. ويكفي أن نعلم أن أول جامعة عبرية والمتمثلة بمعهد التخنيون (العلوم والتكنولوجيا) قد تأسست في مدينة حيفا في العام 1924. لقد كانت الدولة الصهيونية تُبنى بوتيرة متسارعة وبغطاء وتشجيع من دول الاستعمار الغربية وعلى رأسها بريطانيا، وكانت ذروة النكبة الفلسطينية في العام 1948، حين تم إعلان الدولة الصهيونية بشكل رسمي وتوالت الاعترافات العالمية بها.
إن مسيرة الدولة الصهيونية منذ قيامها وحتى يومنا هذا تؤكد على أن الغرب الرأسمالي هو الداعم الأساسي لهذه الدولة، ولم يكن بمقدورها الاستمرار لولا هذا الدعم المتواصل وعلى الأصعدة كافة. وتشير بعض التقارير إلى أن الولايات المتحدة وحدها قدَّمت للكيان الصهيوني ما مجموعه 270 مليار دولار منذ العام 1949. ولا زالت الرأسماية العالمية تعتقد أن استمرارية الدولة الصهيونية تُشكّل ضرورة وأهمية استراتيجية لحماية مصالحها في المنطقة، ولا يلوح في الأفق أي تبدل جوهري في مواقف الرأسمالية الغربية تجاه هذا الكيان.
لم تكتف القوى الرأسمالية بالوعد المشؤوم الذي أطلقه بلفور، والذي أباح للصهاينة السيطرة على أجزاء محدّدة من فلسطين، بل إنها أرادت المضي إلى ما هو أبعد من ذلك والزحف نحو المناطق الجغرافية التي اعترف الوعد واعترفت منظمات الأمم المتحدة بهويتها العربية. وما أن حقق وعد بلفور كافة المكاسب السياسية والجغرافية والديمغرافية التي كانت تحلم بها القوى الرأسمالية والصهيونية، حتى شعرت هذه القوى أنها بحاجة لما هو أبعد من ذلك والمضي قدما في ابتلاع أرض فلسطين. وفي هذا السياق ظهر أخطر وعد بعد وعد بلفور وهو وعد دونالد ترمب الذي أطلق وعدا باتخاذ القدس الموحدة عاصمة أبدية للكيان الصهيوني والبدء على الفور بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وفرض عقوبات على المؤسسات الدولية التي ترعى اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة، كما في دول الجوار والتنكر لحقوقهم، وتقديم رؤية للحل مجحفة وعقيمة ومنحازة لصالح الإحتلال وأداته الاستيطانية. هنا تكتمل حلقة المخطط الاستعماري الغربي في سلب فلسطين وتشتيت سكانه في كافة أرجاء المعمورة. وترافق وعد ترمب بخصوص القدس مع اطلاق صفقة القرن المشبوهة التي تقوم على إجبار دول المنطقة على استيعاب الفلسطينيين وتوطينهم وقطع صلتهم بوطنهم الأم وتصفية القضية الفلسطينية تصفية نهائية . وضمن السياقات السابقة يمكن فهم وعد بلفور المشؤوم ووعد ترمب الإجرامي.