الكاتب:
محمد خليل أبو سعده
هناك من يثق ويعوّل على دور المحكمة الجنائية الدولية وهناك من لا يعوّل أو لا يثق أو يحاول عرقلة عملها لأسباب ودوافع متعددة، في حين انها جاءت نتيجة لجهود كبيرة ومبررات حقيقية وضرورية، وهي قائمة على مبدأ التكامل، أي أنها تحقق في جرائم محددة في حال كانت هيئات القضاء الوطني ليس لديها القدرة أو الرغبة والاستعداد بإجراء محاكمات حقيقية عادلة بخصوص هذه الجرائم.
لا اريد الدخول في المساعي الدولية في إطار تحقيق العدالة الجنائية الدولية على الرغم من أهميتها بدءاً باتفاقيات لاهاي لعامي 1899م و1907م مروراً بالمحاكم المؤقتة ولجان التحقيق واتفاقية 1948 لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها وصولاً لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية وبدء عملها عام 2002م.
ولكن دعونا نلقي نظرة موضوعية وسريعة حول نشاطات المحكمة، هناك من يعتقد بأن المحكمة تقوم بدورها بشكل جيد، وهناك من يتهمها بغير ذلك، إلا أنني أرى أن المحكمة تقوم بدور مقبول وتسعى بشكل حقيقي لإثبات نفسها كجهة قضائية دولية مستقلة فاعلة، بالرغم من الكثير الكثير من العوامل والأسباب التي تعرقل عملها لا داعي لذكرها الان.
واستناداً للتقارير الرسمية التي تصدر عن المحكمة فإنها منذ نشأتها باشرت النظر في (30) قضية يحاكم فيها (46) مشتبهاً به أو متهماً، وقد فتحت تحقيقات في (14) حالة (أفغانستان، أوغندا، بنغلاديش، بوروندي، جمهورية أفريقيا الوسطى "حالتان"، جمهورية الكونغو الديمقراطية، جورجيا، السودان، فلسطين، كوت ديفوار، كينيا، ليبيا، مالي).
في العديد من القضايا تمكنت المحكمة بالفعل من الاستماع الى المظلومين والمقهورين والضحايا وحققت آمالهم في محاسبة مجرمين خطيرين للغاية ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يجب ألا يقلل من قيمة ذلك، بالرغم من أن الكثيرين قد لا يشعرون بعظمة وأهمية حكم هنا ومذكرة اعتقال هناك، كونهم بعيدين عن واقع الحال في شمال أوغندا مثلاً ولا نعرف من هو "دومينيك أونغوين" الذي أدين بارتكاب (61) جريمة ما بين جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في شمال أوغندا في الفترة ما بين عامي 2002م و2005م وحكم عليه بالسجن مدة (25) عام.
وكذلك لا يسمعون بـ "بوسكو نتاغاندا" الذي حكم عليه بالسجن مدة (30) عاماً، ولم نستمع للتفاصيل المرعبة أثناء محاكمته في الجرائم التي ارتكبها في ايتوري "جمهورية الكونغو الديمقراطية"، ولا نعرف الكثير من التفاصيل حول تحقيقات ومحاكمات وصعوبات وتحديات هي موجودة بالفعل، ولكن لو صدرت مذكرة اعتقال لمسؤول إسرائيلي واحد لاختلفت نظرتنا تماماً وأدركنا الكثير حول ما يجري هناك في لاهاي.
السؤال الان هل نرى مذكرة اعتقال تصدر في حق مسؤول إسرائيلي؟؟؟ أو محاكمته؟؟؟ الجواب بكل تأكيد نعم، ولكن قد تصدر ايضاً بحق فلسطيني وقد يحاكم هناك أيضاً...
حتى لا تتشوش الصورة سوف استعرض بعض الأمور المتعلقة بملف فلسطين وسوف أوضح ما لم ينتبه له البعض، أو يتجاهله لسبب أو لآخر، حيث أن المحكمة توصلت لقناعة بأن هناك جرائم ترتكب بواسطة الإسرائيليين وذكرتها، وكذلك توصلت لقناعة بان هناك جرائم ترتكب بواسطة حماس وجماعات فلسطينية مسلحة كما جاء في التقرير وذكرتها.
سوف استعرض شيء من التفاصيل بشكل سريع، كيف بدأت الأمور، وماذا حدث بالوسط، والى اين وصلت الان.
انضمت دولة فلسطين الى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية رسمياً في 1/أبريل 2015م.
في 2018 بذُلت جهود كبيرة من السلطة الفلسطينية، فيما يتعلق بالإحالة ب 22/مايو 2018م وطلب التحقيق في الجرائم، مروراً بإسناد رئاسة المحكمة الحالة في فلسطين الى الدائرة التمهيدية بتاريخ 24/مايو/2018، وصولاً الى اعلان المدعية العامة بتاريخ 20/ديسمبر2019م وبعد استيفاء جميع المعايير القانونية لفتح تحقيق، وبعد التقييم الشامل والمستقل والموضوعي أنها مقتنعة بأن:
جرائم حرب قد ارتكبت أو ترتكب في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة.
أن الدعاوى التي قد تنشأ عن الحالة ستكون مقبولة.
أنه لا توجد أسباب جوهرية تدعو للاعتقاد بأن اجراء تحقيق لن يخدم مصالح العدالة.
وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة الى أن السلطة الفلسطينية وفخامة الرئيس محمود عباس بذل جهود كبيرة جداً منذ انضمام فلسطين لنظام روما وصولاً الى هذه النقطة، ولكن قد تكون هذه الجهود غير منظمة وتعتمد على أشخاص معينين حسب ما يُسرب من معلومات من أعضاء اللجنة الوطنية العليا المختصة، وفي حال لم يكن هناك خطة منظمة وشاملة سوف تظهر نتائج عكسية في المستقبل القريب.
ولكن من باب التوضيح سوف استعرض بعض ما خُلص اليه مكتب المدعي العام
حيث جاء في التقرير انه ثمة أساساً معقولاً للاعتقاد بأن أفراداً من جيش الدفاع الإسرائيلي قد ارتكبوا جرائم حرب تتمثل في:
تعمد شن هجمات غير متناسبة فيما يتعلق بثلاثة حوادث على الاقل (القتل العمد، والتسبب عمداً في إصابة الجسم أو الصحة إصابة جسيمة، وتوجيه هجوم عمداً ضد أعيان أو أشخاص من مستخدمي الشعارات المميزة المبينة في اتفاقيات جنيف).
الأمور لم تنتهِ عند هذا الاعتقاد المتعلق بسلوك جيش الاحتلال الإسرائيلي، بل أن هناك اعتقاد آخر بخصوص حماس وجماعات مسلحة فلسطينية حسب ما جاء في التقرير، نوضحه بالآتي:
بالإضافة الى ذلك خُلص المكتب الى أنه ثمة أساساً معقولاً للاعتقاد بأن أعضاء من حماس والجماعات الفلسطينية المسلحة ارتكبوا جرائم حرب تتمثل في: (تعمد توجيه هجمات ضد المدنيين والاعيان المدنية، واستخدام أشخاص محميين كدروع، وتعمد حرمان الأشخاص المحميين من حقوق المحاكمة العادلة "العادية"، والقتل العمد، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية و/أو الاعتداء على كرامة الشخص) وكل ذلك موضح وفقاً لنصوص النظام الأساسي للمحكمة.
الصورة هي هكذا بالضبط، هذا ما ورد في تقرير المحكمة، أما بخصوص مقبولية القضايا المحتملة المتعلقة بالإسرائيليين سالفة الذكر فان تقييم المكتب للمقبولية من حيث نطاق وحقيقة الإجراءات المحلية ذات الصلة لا يزال جارياً وسيلزم إبقاؤه قيد المراجعة في سياق تحقيق، وهناك توضيح لذلك ورد في التقرير.
غير أن المكتب خُلص الى أن القضايا المحتملة المتعلقة بالجرائم التي يُدعى أن أعضاء من حماس والجماعات المسلحة الفلسطينية ارتكبوها ستكون مقبولة عملاً بالمادة (17) (1) (أ) (د).
كما وذُكر بالتقرير اعتقاد بخصوص جرائم حرب أُرتكبت في الضفة الغربية من قبل افراد من سلطات الاحتلال منصوص عليها في المادة 8 (2) (ب) (8).
كما وخُلص المكتب الى أن القضايا المحتملة التي يٌرجح أن تنشأ على اجراء تحقيق في هذه الجرائم المزعومة ستكون مقبولة عملاً بالمادة 17 (1) (أ) (د).
كما وذكر أن نطاق الحالة يشمل اجراء تحقيق في الجرائم التي يُدعى أنها أُرتكبت في المظاهرات عند الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة، طبعاً هذه الجرائم ارتكبها الجيش الإسرائيلي.
بعد ذلك، وتحديداً 28/يناير/2020 أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى أمراً يحدد الاجراء والجدول الزمني لتقديم ملاحظات بشأن طلب المدعية العامة، ويدعو دولة فلسطين ودولة إسرائيل والمجني عليهم الى تقديم ملاحظات خطية...الخ.
وتقدمت فلسطين بالفعل بملاحظات، ثم طُلب منها معلومات إضافية بتاريخ 26/مايو/2020، وقدمت ..الخ،
وصولاً الى 5/فبراير/2021م حيث أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى قرار بشأن طلب الادعاء لإصدار حكم بشأن الولاية الإقليمية للمحكمة في دولة فلسطين.
وخلُصت الدائرة الى يلي:
دولة فلسطين دولة طرف في النظام الأساسي.
تعتبر دولة فلسطين بالأغلبية دولة وقع في اقليمها السلوك قيد البحث لأغراض المادة (12) فقرة 2 الفقرة الفرعية أ من النظام الأساسي.
تعتبر الولاية الإقليمية للمحكمة فيما يتعلق بالحالة في دولة فلسطين بالأغلبية، ممتدة الى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967م وهي غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
وفي 3/مارس/2021م أعلن مكتب المدعي العام فتح تحقيقاته في الحالة، كما وأوضح التقرير أن المكتب يقيم أفضل السبل لمواجهة التحديات الفريدة التي تنشأ في هذه الحالة مع مراعاة البيئة التشغيلية والقدرة على توفير الموارد، ويقوم باستكشاف سبل تأمين التعاون.
هذا يعني أن الأمور دخلت في مرحلة جديدة تتطلب استمرار الجهود واليقظة، والإسراع في اجراء ترتيبات في منظومة السلطة القضائية الفلسطينية في القطاع والضفة وفق رؤية تضمن استقلال القضاء، والإسراع في اجراء الانتخابات للخروج من حالة الانقسام وترتيب الأوراق حتى لا يظهر مستجدات قد تكون مزعجة للبعض.
هذا من جانب ومن جانب اخر هناك ضرورة لترتيب أمور اللجنة الوطنية العليا للمتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية، والتي شُكلت بمرسوم رئاسي رقم (3) لسنة 2015م، برأسه المرحوم صائب عريقات وعضوية 39 أخرين، المطلوب تقييم عمل اللجنة بشكل مهني وإعادة صياغة شكلها وفقاً للنتائج، حيث هناك الكثير من المعلومات حول عدم فعاليتها وأنها بدون رئيس منذ رحيل القائد الوطني الكبير د. صائب عريقات، وأنها منذ وفاته لم تجتمع ولا مرة، واثناء حياته اجتمعت مرتين.