الكاتب:
د. سهيل الاحمد
إن التشريعات الفقهية قد وضعت قواعد واضحة لحفظ النفس الإنسانية، وتحقيق سعادة المجتمعات وتحصيل مصالحهم المرغوبة، بهدف رفع الضرر والضرار، ودرء المفاسد وإيجاد المنافع، لاعتبار أن المقصد العام من تشريع الأحكام يقوم على هذه الفلسفة، وخاصة عند تعلق الأمر التشريعي بنظام الامتناع الطبي عن علاج المصاب بفيروس كورونا؛ حيث إن المباديء الشرعية لم تغفل مسألة كهذه، وذلك لأهميتها في سلم الضرورات المتعلقة بحفظ النفس ومتعلقات الإنسان وفق المعايير الشرعية، فالامتناع الطبي عن علاج المصاب بفيروس كورونا يرتبط بفقه الموازنات، من جهة أنه يجب على الطبيب وبمقتضى مهنته ومسؤوليته الشرعية أن يبذل العناية اللازمة لحفظ أرواح الناس ومتعلقاتهم من خلال علاجهم ومداواتهم، ومن جهة أخرى فإنه لا يجوز للطبيب أن يعمد إلى مزاولة المهنة مع تحقق الضرر والهلاك لنفسه ولغيره من الناس، وبالتالي فإذا لم يمكن للطبيب أن يتعامل مع المريض المصاب بفيروس كورونا لعجزه عن الأخذ بإجراءات السلامة العامة ومنها أخذ الطعومات اللازمة ومزاولة العمل في مراكز العلاج الخاصة بمرضى كورونا مثلًا؛ فإنه يجوز له الامتناع عن تقديم العلاج إعمالًا للمقاصد والقواعد المتعلقة بفقه الموازنات الشرعية والطبية والإجرائية. ومع أن قيام الطبيب بعمله وفق القواعد المهنية والعلمية والأخلاقية يعد من الأمور المهمة في إرساء مبدأ حفظ النفس ورعايتها وبذل العناية الممكنة في علاجها؛ إلا أن هناك بعض الحالات التي يجوز للطبيب الامتناع فيها عن تقديم العلاج دون أن يترتب عليه أي مسؤولية حيث: يجوز له أن يرفض تقديم العلاج دون رضاء المريض، فعلاقة الطبيب بالمريض علاقة عقدية يجب الالتزام بها وفقا للقوانين والتشريعات ذات الصلة. وفي حالة وجود طبيب بديل يجوز للطبيب أن يمتنع عن تقديم العلاج لأسباب مهنية أو أسباب شخصية. ويجوز له كذلك الامتناع إذا كانت رخصة مزاولته للمهنة منتهية الصلاحية، ومن حقه أن يمتنع عن تقديم العلاج في مراكز صحية غير مرخصة وفقا للقانون، ويمكنه الامتناع عن إجراء العمليات الجراحية إذا كانت الحالة الصحية لا تسمح بذلك وفقا للفحوصات والإجراءات السابقة على إجراء العمليات الجراحية. وقد يكون امتناعه نتيجة قوة قاهرة أو حدث مفاجيء يؤثر في عمله ويمنعه من تقديم العلاج، وهنا يتم رفع المسؤولية عنه، ولا يؤاخذ ويعد امتناعه مشروعًا. وإذا ترتب على العلاج أو حاله بأن يلحق بالطبيب أي ضرر أو أذى كان؛ فيحق له الامتناع، حيث لا ضرر ولا ضرار. وإذا كانت المزاولة للعمل الطبي حاصلة في حال الأمراض المعدية تحققًا أو احتمالًا، والتي قد يتعرض فيها الطبيب للضرر أو العدوى ممن يخالطهم أو يعالجهم من المرضى لتحقق إصابتهم بأمراض معدية، وخاصة إذا لم يتوفر للطبيب مراكز العلاج وما يحميه وغيره من هذه الأمراض من معدات وإجراءات صحية معتبرة. فهنا فإن النصوص الشرعية على أهمية عزل المصابين بالأمراض المعدية عن غيرهم حتى لا يؤثر ذلك عليهم بالضرر والضرار، امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها". وهو كذلك من قبيل احتمال أهون الشرين وارتكاب أخف الضررين، وبالتالي حصول الوقاية وحفظ حياة الناس لاعتباره من المصالح الراجحة المطلوبة شرعًا. وهذا الإجراء يظهر أهمية أن يتخذ التشريع الإسلامي تدابير شرعية تعمل على حفظ النفس وتراعي مباديء الحجر الصحي المعروفة وأنظمتها المطبقة حال انتشار الأوبئة والأمراض المعدية ومنها فايروس كورونا، حيث إن للطبيب من المنظور الشرعي أن يزيل الضرر عن نفسه حال إصابة شخص بمرض معد ويخشى هو أن ينتقل إليه المرض وخاصة حال عدم وجود التدابير الطبية اللازمة لمنع الإصابة بهذا المرض ويكون ذلك بامتناعه الطبي عن تقديم العلاج، مع أهمية معرفة أن هذا الامتناع يخضع لقواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة، ولطبيعة التشريع القائم على مراعاة مصالح الناس من خلال حفظ النفس التي تعد من الضرورات التي يجب مراعاتها والحرص على حمايتها من كل ما يضرها ويعمل على إهلاكها، وبالتالي فإن الامتناع أمر تتعلق به هذه المحددات عند بيان الحكم الشرعي والمعالجة العلمية، حيث ووفق ذلك فإن للطبيب أن يمتنع عن تقديم العلاج والرعاية الطبية للمريض المصاب بمرض معد طالما تحقق الخطر واحتمل حصوله بطريقة راجحة مع معرفة أن الأصل أن يتم تعامل الطبيب مع حالات كهذه وفق الإجراءات المتبعة طبيًا من حيث تلقي الطعومات وإجراءات السلامة العامة التي تقررها المنظمات والهيئات الطبية والحكومية ذات العلاقة بالمسائل الطبية والعملية.