الكاتب: مروان اميل طوباسي
رغم ان المجتمع الدولي انتصر لفلسطين قبل أيام بقرارات اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة باغلبية الاصوات ، الا اننا لاحظنا متغيرات واضحة مقلقة بمنحى التصويت باوساط عدد من الدول الأوروبية و أمريكيا اللاتينية ، ناتج عن صعود اليمين بمنطلقات فكرية جديدة تختلف عن تلك الأسس الفكرية لهم في الماضي وصعود اليمين الشعبوي المتطرف الى الحكم بالعديد من الدول خاصة في دول أوروبا الشرقية و تاثيرات الإدارة الأمريكية والقوى الصهيونية فيها وطبيعة سياسة الهيمنة و الاستقواء التي تمارسها في أوروبا ، و الدور الذي لعبته وما زالت من خلال عدد من محاولات انقلاباتها في أمريكيا اللاتينية واتساع تأثير الحركة المسيحية الصهيونية ودور منظمات ما يسمى باليمين الديني الانجيلي التي تتفق مع الرواية الدينية اليهودية المزعومة وتشكل احدى أسس الرواية التاريخية الصهيونية التي أصبحت تحظى بانتشار و تأييد قي عدد من الأوساط المؤثرة طبعا بالولايات المتحدة و عدد من الدول الأوروبية و اللاتينية كما بالبرازيل مثلا بالإضافة إلى موضوع استغلال فزاعة الهلوكست التي أصبحت ترعب بعض الأوروبيين بعد محاولات نجاح ربطها مع ما يسمى بمعاداة السامية وقيام بعض الدول الأوروبية باعتماد تشريعها والقادم اسؤا بالخصوص خاصة المتعلق منها بالمبادئ التطبيقية للوثيقة.
وهذا احد اهم الاسباب لما ينعكس الان باتباع سياسات أوروبية جديدة لعدد من الدول من بينها ١٢ دوله هي ، ألمانيا، رومانيا ، التشيك، النمسا، سلوفينيا، سلوفاكيا، ألبانيا ، اوكرانيا ، كرواتيا، ليثوينيا ، بلغاريا والدنمارك والتي صوتت قبل يومين بالجمعية العامة للأمم المتحدة اما بالامتناع او ضد القرار المتعلق بالقدس ، كما أن بعضها صوت ايضا بشكل سلبي ضد القرار المتعلق بحل الصراع وفلسطين .
كان ذلك قبل يومين من انتهاء مهمة عملي كسفير لدى اليونان رسميا ، لم يكن أمرا سهلا أمام هذا التراجع بموقف تلك الدول الاوروبية أن تتميز اليونان وغيرها بموقف مختلف ، فكانت الضغوطات كبيرة بما له علاقة بما ذكرته ، الا إنني لم ادخر جهدا بالمتابعة والضغط على جهة القرار ، فكان النجاح هو نتيجة العمل المكثف بحيث صوتت اليونان والدول الأوروبية الأخرى المتبقية ايجابيا إلى جانب تلك القرارات التي اقرتها الجمعبة العامة للأمم المتحدة باغلبية ١٢٩ صوتاً وخاصة بشأن القدس.
لكن منحى تصويت اليونان وغيرها من الدول الايجابي وتاييدها لمبداء حل الدولتين وفق حدود ٦٧ والقانون الدولي يبقى ناقصا دون الاعتراف بدولة فلسطين واتخاذ اجراءات عقابية بحق دولة الاحتلال .
أن التصويت ضد القرارين أو بالامتناع الذي اتبعتها عدد من الدول وعددها ٤٢ وفق منهج النفاق السياسي امر يجب أن يكون غير مرضي وغير مقبول لنا ويجب أن يدفعنا الى مزيدا من العمل مع تلك الحكومات عن قرب وكثب ، كما أنه امرا غير مقبول لشعبهم ولعدد من أحزابهم الديمقراطية الأوروبية ، حيث تحاول تلك الدول مسك العصى من النصف ان نجحت بذلك ظنا منها انها ترضي الطرفين .
الا ان وقوف بعض هذه الدول في مسار الاقلية الدولية الى جانب دولة الاحتلال والولايات المتحدة التي لا تعير القانون الدولي أهمية وتقبل في أن يكال القانون الدولي بمكيالين بشأن الحقوق الغير قابلة للتصرف وحق تقرير المصير لأي شعب يتوجب الوقوف عنده ودراسة أسبابه أن كانت الذاتية او الموضوعية أو كلاهما معا .
إضافة إلى ذلك ، هنالك الان سياسات تتبعها تلك الدول في مواجهة النازحين الى أوروبا و جنوح بعض اوساط المجتمعات الأوروبية وتحديدا قوى اليمين نحو معاداة الإسلام بل والمسيحية المشرقية أيضا بل ونحو منحنيات عنصرية ضد كل من هو اجنبي، الامر الذي لا يتفق مع الديمقراطية المفترضة ومبادئ نشؤ الاتحاد الأوروبي و سياساته الأخلاقية المفترضة ، إضافة إلى عدم قدرة عدد من الأوروبيين بشكل عام في اتخاذ مبادرات سياسية في مواجهة الإدارة الأمريكية بسبب تصاعد بعض خلافاتهم و مشاكلهم بالاتحاد الاوروبي المتعلقة بالسياسات الاقتصادية و الاجتماعية وتصاعد الاحتجاجات الشعبية او بقضايا الحدود ، إضافة إلى توجهات البعض للخروج من الاتحاد الاوروبي كما فعلت بريطانيا ، بالاضافة إلى ما تتركه تداعيات الخلافات الالمانية الفرنسية حول الزعامة الأوروبية.
ان الأمم المتحدة كانت قد تشكلت على أثر ما نتج عن الحرب العالمية الثانية من نظام دولي أصبح غير قائم اليوم و انتهت تكتلات دولية كانت قائمة مثل منظومة الدول الاشتراكية و مجموعة دول عدم الانحياز ، وبقينا نحن وحدنا كحركة تحرر وطني لم تنجز مهامها ، وصعدت الي الساحة الدولية قوى جديدة خاصة حولنا بالاقليم مثل تركيا وإيران تملك مشاريعها ، وأصبحت إسرائيل رغم أنها قوة احتلال ودولة فوق القانون تشكل لاعب اساسي يحظى اليوم للأسف بعلاقات واسعة وتؤثر في لعبة المصالح والتوازنات مع دول جديدة لم تكن بالحسبان سابقا بما تشكله الان كرابع أقوى دولة عسكرية بالعالم ومن قدرات تكنولوجية تتمتع بها ، ما يدفع دول عديدة لرسم علاقات جديدة متغيرة معها ، واعتماد الولايات المتحدة التي تنتهج سياسة الانقضاض بخارج حدودها او التراجع والانعزال وفقا لمصالحها الاستراتيجية المتغيرة بالمنطقة سوى في ثابتين هما الطاقة والحفاظ على تفوق إسرائيل.
المتغيرات السياسية بالمنطقة و العالم متسارعة جدا و التحالفات الإقليمية والدولية أصبحت تتبدل بسرعة لاختلاف المصالح و خاصة قضايا الأمن و الغاز و الطاقة و السيطرة على البحار و مناطقها الاقتصادية الخالصة EEZ وقضايا الحدود المائية بل وعلى الأرض ايضا من خلال التدخل المباشر او من خلال أدوات و عصابات الإرهاب ، إضافة إلى التدمير الممنهج الذي جرى لمقومات الدولة الوطنية العربية على مدار العقد الماضي وانهاك جيوشها و السيطرة على مصادرها من خلال ما فرض عليها بما سمي بالربيع العربي وصولا إلى حالة الهرولة بالتطبيع عند البعض ، بما يشكل انتهاكا لقرارات القمم العربية ، لكنه أصبح يرسم معالم خارطة جديدة للواقع العربي المتغير أيضا.
ان ما ذكرته من متغيرات شجع وما زال يشجع بل ويساهم في تمدد المشروع التوسعي الكولنيالي والاحلالي الصهيوني على حساب ارضنا والتضامن مع حقوق شعبنا و قضيتنا العادلة بالتحرر الوطني من الاحتلال التي ما زالت تحظى بالدعم و التأييد من اوساط لها حضورها أيضا في أوروبا من منظمات شعبية و اجتماعية و أحزاب ديمقراطية اشتراكية محددة وشيوعية ويسارية و حتى في اوساط بعض الاحزاب الحاكمة من اليمين أو يمين الوسط وفي أمريكيا أيضا باوساط الكونغرس نفسه ممن لم تتاثر هي أيضا بضغط الادارة الأمريكية وباللوبيات اليهودية الصهيونية ومصالح راس المال اليهودي للجاليات اليهودية التي نراها تقف موحدة حول مصالحها ومصالح اسرائيل وتؤثر على صناعة القرار السياسي وذلك بعكس الواقع المتفسخ والمترهل لجالياتنا العربية والفلسطينية وضعفها بشكل عام حول العالم وعدم قدرة الاستثمار العربي على التأثير كضاغط حقيقي على سياسات هذه الدول ، مما أثر وسيؤثر لاحقا على منحى تصويت هذه الدول.
و هذا ما يجب أن يدفعنا الى رؤية أهمية الدبلوماسية العامة والشعبية لاستمرار حشد التضامن و التأييد من هذه القوى ولامكانية ان تشكل قوى ضاغطة على صناعة القرار السياسي الرسمي و بشكل خاص من خلال الأحزاب والنقابات و البلديات والبرلمانات التي على سبيل المثال قد اتخذت توصياتها وقراراتها بدعوة حكوماتها في أوروبا للاعتراف بدولة فلسطين خلال السنوات السابقة كما حدث باليونان مثلا من قرار باجماع أعضاء البرلمان ، إلى جانب أهمية العمل الدبلوماسي الرسمي مع الدولة ومحاولة البحث عن مصالح مشتركة الى جانب ابراز القيم المشتركة التي لم تعد وحدها المحدد الوحيد للعلاقات الدولية .
كما ضرورة الاستفادة من تأثير بعض المنظمات اليهودية الغير صهيونية ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والعمل معها بهدف اتخاذ موقف اكثر جرأة في مناهضة السياسات الأمريكية والاسرائيلية وجرائم الاحتلال اليومية وموضوع معاداة السامية او أكذوبة ديمقراطية إسرائيل التي تجاهر بها أمام العالم وعرض نفسها كضحية عبر التاريخ وفق روايتها التاريخية المزيفة.
كما ان ادراك التأثيرات السلبية الكبيرة الحاصلة نتيجة الانقلاب وما تبعه من محاولات تجسيد الانقسام كامر واقع على الأرض احرج مبداء السيادة الوطنية الشرعية ودور منظمة التحرير أمام العالم الذي اعترف بها وما رافق ذلك لاحقا من الاعتراف بنا كدولة غير عضو بالامم المتحدة عام ٢٠١٢ وانضمامنا إلى المنظمات والاتفاقيات الدولية . هذا الأمر وضعنا في موقع صعب حتى امام اصدقاؤنا وقوى الحرية بالعالم ، الأمر الذي يجب أن ينتهي فورا وفق مبداء رؤية المصالح الوطنية العليا والعمل في إطار منظمة التحرير وتمكين حكومتنا الوطنية من العمل أينما كان وفق سيادة القانون ، لينتهي هذا الاحراج ويتوقف حتى التفكير باي مشروع انفصالي لا يقود إلى دولة وطنية كاملة السيادة والتواصل الجغرافي وديمقراطية على كافة الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ والقدس عاصمتها وعودة اللاجئين والابقاء على التمسك بورقة حل الدولتين وفق قرار التقسيم ١٨١ لعام ١٩٤٧.
هذه الأمور والمستجدات تتطلب منا تقييم ومراجعة موقعنا وموقفنا من تلك المتغيرات ورؤية واضحة تترجم الى خطط وبرامج عمل لمواجهة ذلك حتى نكون مؤثرين في هذا العالم العاصف ونحمي أنفسنا و قضيتنا وحقوقنا الوطنية الغير قابلة للتصرف ، فالسياسة لا تعرف السكون والتاريخ دائما في تغير و لن يبقى العالم كما هو اليوم ، لكننا لم نعد في عالم القطبين وما رافقهما من سياسات مصالح او مبادئ . حتى نظام القطب الواحد التي حاولت الولايات المتحدة فرضه على العالم بدأ بالافول والتراجع أمام صعود الصين وروسيا وغيرها من الدول في ظل أزمات تعصف بالعالم اقتصادية ، صحية ومناخية .
وكما امتلكنا الارادة وقوة الحق في اننا وقفنا في وجه التوحش للإدارة الأمريكية السابقة من خلال ما رفضته قيادتنا السياسية الشرعية لمشروعهم التصفوي عندما ظنوا هم اننا الأضعف فكنا نحن الاقوى بالتمسك بثوابتنا والقول "لا" لهم ، وادراك كيفية التعاطي مع تهرب الإدارة الأمريكية الحالية من تنفيذ ما وعدت به وضعفها أمام حكومات إسرائيل.
فقليلا من الصمود والصبر وكثيرا من العمل والاداء لتطوير المقاومة الشعبية وفضح سياسات الاحتلال والاستيطان والابرتهايد القذر وجعله مكلفا لمحاصرة وعزل دولة الاحتلال البشع وسياساتها بالتطهير العرقي التي تجري أمام أعين العالم .
فالمتغيرات لن تكون بعيدة والشعوب وقوى هذا الكون لا تستطيع ان تستمر في قبول دولة الاحتلال كدولة فوق القانون والعالم لن يقبل بدولة نظام فصل عنصري أخرى بعد أن سقط هذا النظام البائد في جنوب إفريقيا سابقا ولن يحتمل اكثر القانون الدولي استمرار كيله بمكيالين ، فالشعوب هي من سيرسم فصل جديد من النظام العالمي بعيدا عن جشع الاستغلال وتغيب العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان ، فكما انتصرت شعوب العالم ضد الاضطهاد فان شعبنا حتما سينتصر .