الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

تحت شجرة الميلاد قلنا للإسرائيليين الرب ليس لكم وحدكم

نشر بتاريخ: 06/12/2021 ( آخر تحديث: 06/12/2021 الساعة: 12:01 )

الكاتب: عيسى قراقع




أضأنا شجرة الميلاد في ساحة المهد في مدينة بيت لحم، وأمام الكنيسة الرابضة في المعنى والتاريخ. مشى ماضينا الإنساني من حقل الى حقل، ومن بيت الى بيت، ومن آية الى آية، ليمتزج الصوت بماء البئر ورائحة المكان.
قلنا مع الترانيم: كنا هنا، وما زلنا هنا، قبل أن يجيء "يهشواع" الإسرائيلي، ويحتل الحقول وينشر أيديولوجيا الاستيطان، يقطع الصبار ويعبرن الأسماء.

وقلنا: أن لنا تحت هذا التراب، وفوق هذا التراب، خطى أنبيائنا، وتعاويذ أرواحنا، وأننا أول القادمين مع الغيث، وأول الواقفين تحت ماء السماء.
وقلنا: بأنا ولدنا هنا بين حجر وماء ونار، ونولد ثانيا في الضوء والغيوم، على شاطئ المتوسط، وفي أي فصل من فصول السنة، حتى لو استمر نزيف دمنا واختفى صوت الشتاء.
في ساحة الميلاد استعدنا نجمتنا الفضية، وقد عادت من الغياب الى مذودها، أضاءت وفاضت بالحليب والبشرى، وإذا باليسوع يرتدي روحه القدسية، يصعد الى صهيل الصليب، مكتفيا بالبرق والتحية.
في ساحة الميلاد، كلام الله يختلط بكلام الضحايا، يسيل دم كثير على البلاط المقدس، يتذكر الناس اقتحام المجنزرات لبيت الصلاة، وبكاء القمر في الليل، يتذكرون أربعين يوما من الحصار، وتلك التوابيت التي تحمل ملائكة ذبحوا قبل العشاء الأخير.
تحت شجرة الميلاد انفجرت أسماؤنا في صلوات كنعانية، في كرومها وحنطتها، في الرخام وفوق التين والزيتون، لنرى غيابنا كله شجر: شهداء يحتفلون بميلاد موتهم، بيوت ترتب حدائقها للورد والعائدين، ونرى الأرض تطرز ثوبها للطير والنشيد.
تحت شجرة الميلاد، هنا في المسافة بين القدس والسماء، قرأنا حكايتنا على العالمين، ونثرنا فضة زيتوننا على كل الشعوب، قبل أن يصل الغزاة الى غدنا، والى طفل المغارة.
تحت شجرة الميلاد، قلنا للإسرائيليين: الرب ليس لكم وحدكم حتى تأخذوه ناطقا للوعد والخرافة، وتسكنوا فوق أجسادنا ونومنا وأحلامنا وصدى ريحنا، وتدّعون أن الأرض كانت فارغة.
الرب ليس لكم وحدكم لتكلموه من على جبل سيناء، فيرسلكم بعد التيه إلينا مستوطنين ومستعمرين، مشحونين بأسفار الانتقام والتطهير العرقي، بعد أن فشلتم في الانصهار والاندماج مع روح العالمية والإنسانية والحضارة البشرية.
الرب ليس لكم وحدكم لينقذكم بعد التيه، ويعطيكم "سيف جلعاد، لتقطعوا تين البراري، وخوخ السهول، وترقصون فوق مذابحنا، وتغنون للحرب والبندقية باسم الخلاص والأبدية.
أيها الإسرائيليون: الرب ليس لكم وحدكم كي يصطفيكم شعب الله المختار، لتمسحوا شعبا أصيلا عن أرضه فلسطين، تسفكوا الدماء، ولا تروا من حولكم بأننا الذين نملك الخبز والعسل الأحمر واللغة، وأن كل مفردة فينا هي بيت ونافذة وفضاء.
تحت شجرة الميلاد قلنا للإسرائيليين: لا تضعوا المسدس في يد الله، ولا تجعلوا من نور البنادق نورا للأغيار كما تعتقدون، لا تحترقوا مرة أخرى في أيديولوجيا الغيتو والسيطرة على الآخرين.
أيها الإسرائيليون: أنتم تستمعون لهرتسل عن الأرض القديمة الجديدة، دولة اليهود، وهو يدعوكم الى الهجرة الى الجغرافيا التوراتية وإفراغها من سكانها ونباتاتها وهوائها وقراها، ولتكتشفوا أن الدولة الموعودة تحولت من دولة مدنية وحضارية الى دولة بوليسية إسبارطية تغرق في العنصرية، حتى صرخ الكاتب الإسرائيلي "عاموس كينان" لقد قتلت الدولة الوطن الذي قالوا أنه لي.
ونحن نستمع الى مرثية الكاتب الإسرائيلي"س. يزهار" الأدبية عن نكبة فلسطين، والى الكاتب الإسرائيلي "ايلان بابيه" عن التطهير العرقي في فلسطين، لنجد شهودا منكم يقولون: نحن نندب محرقتنا، ولكنا لم نندب محرقتهم، هناك حرب الآن.
أيها الإسرائيليون، أنتم تستمعون الى وصايا "بن غوريون" و "عاموس عوز"، والذين جعلوا من الكتاب المقدس والعهد القديم عنصرا محوريا في عملية استعمار فلسطين، بعد أن حاربوا فيكم ذلك المنبوذ الواعي، المتمرد على واقع الظلم والنبذ، الرافض للصهيونية كحل للمشكلة اليهودية، لتتحولوا الى بشر آليين، تبحثون الآن عن إله جديد، يعطيكم وعدا آخر لحياة طبيعية تخلصكم من مأزقكم الوجودي والأخلاقي والثقافي.
ونحن نستمع للكاتب الإسرائيلي "كراكوتسكين" و "ديفد غروسمان" لنجدهم شهودا آخرين يدعون الى النضال الشامل ضد الاحتلال، وعدم التعاون مع جهازه وأدواته، وهو مصدر الأمل كما يقولون للاستقامة الاخلاقية والسلام، ويرون أن اندماج اليهود في المنفى، ونضالهم ضد اللاسامية، هو الطريقة الطبيعية للحياة بالنسبة لليهود، والتي قوضتها الصهيونية، كراكوتسكين وغروسمان لا يريدان ربا محاربا يبيد الآخرين تحت شعار طهارة الأرض والسلاح.
تحت شجرة الميلاد، قلنا: الرب ليس لكم وحدكم؛ بل أن هذا الرب الذي وضعتموه في علبة أسطورتكم وثقافتكم قد تخلى عنكم وسحب الوعد، فتوجهتم بعد أكثر من ستين عاما إلينا نحن الضحايا، تطلبون أن نعترف بدولتكم كدولة يهودية نقية خالية منا ومن دمنا ومن ذاكرتنا وذكرياتنا.
لأول مرة في التاريخ يتوجه القاتل الى المقتول، كي يشهد بأن القاتل لم يقتله، يتخلى عن وجعه ونكبته، كي يعيش القاتل مطمئنا، فلا يبقى شبح الضحية يلاحقه كل حين.
قلنا: هذه ليست دولة يهودية وإنما دولة احتلال، وأنه لا يوجد رب يسمح في الإصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الأول، بقتل النساء والأطفال وضرب العماليق رجلا وامرأة ورضيع، وزرع كراهية عمياء تحولت الى أيديولوجيا للإبادة والجريمة الإنسانية.
تحت شجرة الميلاد، قلنا للإسرائيليين: اعتذروا لروح الطبيعة عمّا صنعتم بجسدها، استبدلتهم شجر الزيتون المبارك بأشجار الصنوبر، كي تظهروا كدولة أوروبية الطابع، وأخفيتم القرى والمنازل المدمرة، غيرتم خريطة الأسماء العربية بأسماء توراتية متخيلة، ولم تدركوا أن محو آلاف الأعوام من الزمان، هو دليل على غيابكم عن هذا المكان.
وقلنا: الإسرائيلي يذهب في سياحة الى قرية فلسطينية فلا يراها، يستدعي العهد القديم ورب الجنود، ويأتي باللاهوت الصهيوني على ظهر دبابة، ويستمتع بما وراء الزمان، دون أن ينتبه لفلاح فلسطيني يحرث الأرض، أو لقبرة تطير من نابلس الى الرملة، في فمها حبة قمح وسنبلة.
أيها الإسرائيليون، ماذا ستفعلون الآن؟ منفى داخلي وروحي يحيط بكم، لم يتحقق الوعد، عدتم الى الغيتو خلف جدار من الخوف والميثولوجيا، فكرهتكم الأرض حتى غضبت عليكم، احترق صنوبر الكرمل ، وانكشفت حجارة الطابون والسقيفة وقبور عتيقة.
ماذا ستفعلون الآن؟ فالأرض بعد أكثر من أربع وسبعين عاما من غزوكم ظلت حبلى بنا وترفضكم، وقد أصبحت ولادتنا الدائمة هاجسا مرعبا على نقاء دولتكم، إذا ما انفجرت القنبلة الديمغرافية في أرحامنا.
أيها الإسرائيليون، لكم دينكم ولنا دين، فلا تحولوا الله الى مستوطن يهاجر من السماء معكم، فالله العادل يبارك صبرنا وصمودنا، وهذه الأرض تلقننا كلام الله منذ أن أعطاها صفاتنا وأسمائنا، وظلت أصواتنا صدى للآيات والغزلان، وأيامنا رائحة برتقال لا تحتاج الى خرافة لتدل علينا.
تحت شجرة الميلاد صلينا، كنيسة المهد أمامنا، والقدس تتحرك نحونا، إن عطشت نعطش أكثر، وإن تنفست نزل المطر واحتفلت النجوم وتحركت الرياح، لنا فيها نبي وصخرة وكنيسة وضفائر شمس في التاريخ والهوية، ولها فينا عبادة ودم وبحر ومدن تتصافح أيديها من حيفا حتى النقب، ومن إبراهيم طوقان حتى محمود درويش وهو يغني بخشوع: هذه الأرض جدتنا، مقدسة كلها حجرا حجرا، هذه الأرض كوخ لآلهة سكنت معنا، نجمة نجمة وأضاءت لنا ليالي الصلاة.