الأحد: 19/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

فتح في انطلاقتها... مهابة الفكرة وهيبة المسيرة

نشر بتاريخ: 29/12/2021 ( آخر تحديث: 29/12/2021 الساعة: 20:52 )

الكاتب:

بهاء رحال

باقية لأنها وجدت حتى تحقق النصر. انقرضت أحزاب وماتت حركات وتراجعت جبهات وطويت مبادرات واندثرت انشقاقات وتلاشت انقسامات، وبقيت فتح عملاقة تطوي السنوات ولا تعدها، بل تطبع مع مطلع كل عام رصاصة فجر جديد، على جبين مسيرة العطاء والفداء والتضحية، وديمومة التحدي القادر على المجازفة والمواجهة من أجل رصانة مهابة الفكرة، وحتمية تجسيدها قولاً وفعلاً، وتلك العقيدة الأكيدة التي قضى في طريق تحقيقها مئات آلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين، منذ انطلاقتها في الفاتح من كانون عام 1965، ولأنها فتح المؤمنة بحتمية الانتصار يلتف حولها الناس وتلتف حولها الجماهير، ويتمسكون بها، خيرهم وشرهم، فتجد فيها الأخوة وأهل الفداء والتضحية وخير رجال الأرض من كل أصقاع الأرض، كما تجد فيها الخصوم وأهل المنفعة والمتلونة قلوبهم، غير أن الغيورين على فتح سرعان ما يقفوا لحماية الفكرة من شر أصحاب النفوس الخبيثة، فيحموا فتح من لوثة البعض الطامح بمكاسب هنا ومكاسب هنا، وهذا قدر فتح التي حباها الله في كل عقد من الزمن برجال صدقوا ما عاهدوا، وهم أهل الفداء، ولهذا هي باقية، وكما قال فيها الرئيس جمال عبد الناصر أن فتح الحركة العملاقة وجدت لتبقى، فرد عليه حينها الشهيد الخالد ياسر عرفات، باقية لتنتصر. وتلك هي عقيدة فتح الأكيدة التي ترثها الأجيال وتتوارثها في صراع مع العدو تعرف مكوناته وتعرف أطماعه كما تعرف مقومات وجوده، وكيف سيتهالك ويهلك وعلى اختلاف الضمانات التي يستند إليها، فلا يشتثّ شعب حي، ولا قوة تستطيع فعل ذلك، ومن هنا كانت فتح كابوس الصهاينة الغير قابل للانكسار والاندثار والقسمة والتشرذم والانشقاق، فقد شكلت فتح المنبعثة من حضارة شعب عريق، تكاملًا غني في الحرب والسلم وفي فهم سلوك العدو وأبعاد فكرته القائمة على أكاذيب وشائعات وافتراء لم يعهده التاريخ من قبل، فتحول الاحتلال البسيط إلى احلال كولينيالي بغيض، ومنذ البداية فهمت فتح أهمية تكامل الجهد الوطني الإنساني وفي مختلف الجبهات، العلمية والابداعية والأدبية والمعرفية والكفاحية والنضالية، وحرصت أن تكون حركة شعب بكل مكوناته الحضارية والانسانية والتاريخية، لا حركة أيدلوجية معينة أو فكر معين ونهج معين، لهذا عملت على رفع مكانة كل المكونات مجتمعة، مما جعلها دائمة البقاء وحيوية الحضور وعصية على الانحناء أو الكسر. فتح غلابة يعني أنها تهزم خصومها كما تهزم أعدائها في إطار مسيرة الكفاح الرامية إلى هزيمة الاحتلال واجتثاثه، ولأنها تهزم كل خرافة وكل مكيدة وكل ادعاء كانت غلَّابة، قوية قادرة وفي ذات الوقت رهيبة في لملمة شمل أبنائها الذين هم فلسطين وفلسطين هم، فهي باقتدار كانت عصب المسيرة وبصيرة الطريق الذي لا يضل، بل بوصلة حق وحقيقة، ورهان شعب على حريته واستقلاله.

وحتى نكون منصفين لهذه الانطلاقة المجيدة التي حملت في طياتها الكثير من الدلالات والمعاني التي لا بد لنا وأن نذكر بعضاً مما جسدته طوال العقود الماضية، خاصة وأنها إستطاعت ليس فقط إعادة وبلورة الهوية الوطنية بشكلها المقاوم، بل إنها حملت الهم الوطني والحلم الفلسطيني، وقادت أعظم وأكبر ثورة في التاريخ المعاصر، وواجهت أعتى قوى العالم ظلماً وبطشاً وإرهاباً، وساهمت بشكل كبير في تطور المجتمع الوطني والارتقاء بمسيرته في كافة النواحي والجوانب، وعملت على تحرير الإنسان وزيادة الوعي الثقافي والوطني والعلمي، وبنت جسوراً من الثقة والتواصل والإنتماء حتى صارت الجماهير كل الجماهير تهتف باسمها للوطن الذي كان ولا زال فينا هو الحلم الكبير، والعظيم الذي تضغر أمامه كل الأشياء والتسميات، وصارت فلسطين الأقرب إلينا وفينا وقطعنا مشواراً طويلاً واقتربنا من نهاية النفق المظلم لنخرج إلى نور الدولة والولادة من جديد بإعتراف العالم نفسه الذي تنكر في البداية لها، وصارت فلسطين حاضرة في كل المحافل الدولية والأممية ووصلت أعلى المنابر، وأصبحت القضية المركزية الأولى في العالم التي تحظى بالاهتمام الكامل، رغم أن انحياز النظام العالمي الرسمي لصالح دولة الاحتلال لا زال شاسعاً وواضحاً، ولا تزال هذه الأنظمة منحازة بشكل فاضح وغير أخلاقي وغير عادل ومنافي للإنسانية حتى فيما ترتكبه هذه الدولة من جرائم وحروب يشاهدها العالم أجمع، ولا تستطيع هيئة الأمم أن تقول كلمة واحدة أو تتخذ موقفاً عادلاً بل إنها تضع التبريرات المتكررة والمتشابهة في كثير من الأحيان وتستخدم فيتو اللعنة ضد حقوقنا لصالح قانون الغاب الذي تنتهجه دولة الاحتلال.

إنها فتح في انطلاقتها السابعة والخمسون وقد إمتلأت بكل صور الإبداع والتألق الوطني وظلت أمينة على فلسطين، وحافظت على الهوية الوطنية من الضياع، ورفضت الوصاية والتبعية، ورفضت كل الأنظمة الرجعية والإمبرالية، وكانت أول الرصاص وأول الحجارة، وأول براكين الغضب في وجه الاحتلال، وهذه هي فتح التي كانت ولا تزال تزرع في الأرض ابتسامة وأمل، كما تجدد عهدها ووفاءها لفلسطين الأرض والإنسان عقيدة راسخة إلى أبد الأبد. فعاشت الذكرى وعاشت فلسطين.