الكاتب: محمد محمود بني عودة
قد يكون الانطلاق من هذا السؤال: لماذا نجد القضايا الصحية حاضرة في أجندة الاحزاب السياسية والبرامج الانتخابية بل وحتى في شكل النظام السياسي؟ مقدمة هامة لاستعراض أهمية تأثير الانظمة السياسية على السياسات والأجندات الصحية التي تمس حياة الناس من الميلاد إلى الوفاة.
إن الإجابة عن هذا السؤال يساهم بشكل أو بآخر في عمليات الاصلاح والتطوير التي ينشدها الناس (دافعو الضرائب)، اذ أن هذا السؤال له علاقة في التأثير على الوعي الجمعي بأن مسؤولية التغيير والاصلاح هي مسؤولية جماعية، ومسؤولية تشترك فيها الشعوب؛ أفراداً وجماعات مع الانظمة التي تفرزها طوعا أو كرها. وللمزيد من فهم هذه العلاقة، فلا بد لنا أن ندرك أن السياسة والسياسة الصحية تتقاطعان في وظيفة ديناميكية وهي التأثير على الأفراد والمؤسسات والمجتمعات عبر مجموعة من الأدوات والوسائل للتأثير عليهم وتحقيق أهداف محددة مسبقة. وهذا التقاطع يقودنا للدخول أكثر إلى التركيبة البنيوية للأنظمة التي تؤثر بشكل مباشر على السياسات التعليمية والصحية والاقتصادية والرياضية وكافة البرامج والجهود التنموية.
ولنا أن نلاحظ أن الدول ذات الخصائص الشمولية تختلف عن الرأسمالية والديمقراطية والملكية من حيث القيم والمبادئ والتي تترجم في المحصلة الأخيرة في نظرتها للإنسان كرأس مال بشري يدخل في نطاق الثروة القومية. هذا التفاوت هو المحدد الذي يعطي الشكل النهائي للسياسات والبرامج الصحية من حيث سعتها وجودتها ووفرتها وغيرها من خصائص الوفرة والجودة. ولعلنا ترى أن بعض الدول العظمى تفرض رؤيتها على السياسات الصحية بشكل مباشر. وفي مثالٍ غير حصري علينا أن ننظر إلى برامج صحة الأم والطفل؛ لنجد أن الصين تحدد أعداد المواليد المسموحة لكل عائلة، بينما نجد أن الهند (بعض الحكومات المحلية) تشجع النساء على إنجاب الاناث بسبب ظاهرة اجهاض الأجنة الإناث، كما وتجد، أيضاً، أن الجمهورية التركية وروسيا تشجعان زيادة أعداد المواليد وتُعطي منحاً مالية للمواليد الجدد. هذا المثال غير الحصري للسياسات الصحية يبين بشكل او بآخر نظرة الأنظمة للإنسان بما يخدم أهداف تلك الأنظمة وغاياتها، كما يبين تأثير النظام السياسي المباشر على السياسات الصحية.
السياسات الصحية يتم رسمها حسب قوة الدولة سياسيا وماليا، فالدول الأقوى تستطيع انفاذ برامجها وسياستها حسب رؤيتها وأولوياتها بينما الأنظمة الأضعف تكون منقادة بأجندات المانحين وتوجهاتهم وتبرعات القطاع الخاص، وفي المقابل تجد أن هناك أنظمة تعتمد في رسم سياساتها الصحية على الأدلة العلمية والبحوث العلمية الرصينة بسبب ما تتمتع به من ديمقراطية وشفافية في نظام الحكم. إذ أن توافر الحوكمة والقيادة والشفافية تساهم في تشكيل رسم وبناء النظام الصحي القوي والمنيع والذي يؤدي وظيفته الأساسية كالوصول إلى التغطية الصحية الشاملة كأحد الأهداف الانمائية المستدامة، والتي من شأنها أن تؤدي إلى الوصول العادل للخدمات الصحية ذات الجودة والمأمونية والموثوقية العالية، وهذا كله مرتبط بنظام سياسي يخضع للمساءلة والمحاسبة والمسؤولية؛ يكون فيه صوت المواطن هو الفصل.
ولأهمية هذا الموضوع، فإن المؤسسات والمنظمات الدولية لعبت دوراً للتأثير الايجابي في سياسات الدول وحثها على وضع الصحة على رأس الأجندات التنموية، ولعل الجهد الذي قامت به منظمة الصحة العالمية عام 2013 بتنظيم مؤتمر دولي في مدينة هلسينكي – فلندا هو إحدى هذه الأمثلة، حيث جاء هذا المؤتمر بعنوان تعزيز الصحة، وكان من أهم توصياته ادماج الصحة في كافة السياسات Health in All Policies- HiaP كمحاولة لزيادة وتعزيز التعاون عبر القطاعي بين مختلف الشركاء العاملين من تعليم وأمن ومرور وطاقة وغيرها من المجالات الحيوية.
أزمة كورونا والسياسات الصحية
أزمة جائحة كورونا كشفت عيوبا كثيرة في الانظمة الصحية التي هي أصلا افرازات الأنظمة السياسية على مر العقود السابقة، حيث بينت تلك الأزمة العجز في كافة عناصر النظام الصحي الستة: الخدمات الصحية (من حيث الوصول والوفرة للخدمات الاولية والمتقدمة، التخصصية) الكوادر الصحية (من حيث الاعداد والتوزيع و التخصصات) التكنولوجيا والأدوية (من حيث وفرة المعدات والأجهزة وصيانتها والأدوية واللقاحات) التمويل الصحي (الموازنات والسيولة وطرق الصرف والشراء) ونظم المعلومات (المعلومة الدقيقة و اللحظية ذات الموثوقية العالية) وأخيراً، الحوكمة والقيادة (حيث أن كثيرا من المنظومات تأثرت لدرجة الانهيار). إن حصر التفكير بالنظم الصحية كنظم عمودية غير متفاعلة مع السياق السياسي سيؤدي إلى مزيد من العجز والثغرات لعدم واقعية البرامج المطروحة، حيث تكون مبنى بلا معنى.
ومن جهة أخرى، ساعدت أزمة كورونا الباحثين والمختصين وخبراء الصحة العامة والمستثمرين على اعادة ترتيب الأولويات السياساتية، حيث شرع الشركاء في تصميم خارطة طريق جديدة تعتمد على الوقائع والأدلة، لا على الرغبات والتجاذبات السياسية. فالجامعات والمؤسسات البحثية وشركات الأدوية وشركات الأجهزة الطبية والشركات العاملة في قطاع تكنولوجيا المعلومات (الذكاء الصناعي وانترنت الاشياء ومنصات الاتصال والتواصل) مثل جوجل وزووم وفيس بوك وغيرها صرفت ولا زالت تصرف المليارات للقدرات التطويرية للمساهمة في تحسن واقع الحياة الجديدة التي تعتمد على التباعد الاجتماعي والتنبؤ والرصد والتعقب. فالأزمة ذاتها التي كشفت العيوب ساهمت، ايضاً، في ايجاد الحلول لكثير من المشاكل مثل التطبيب عن بعد والتشخيص عبر تطبيقات الذكاء الصناعي وتحليل البيانات الضخمة Big Data ، الأمر الذي أسهم في تغذية ورفد المجتمع الانساني المعرفي بأنواع جديدة من المعارف والتنافسية العلمية المحمومة وبسرعة فائقة.
تأثير الصحة على السياسة (القوة الناعمة)
استعانت الانظمة السياسة وحتى الأعتى والاقوى منها بالعلماء والخبراء واللجان الاستشارات وبيوت الخبرة للحفاظ على هيبتها أمام الشعوب. المعروف في المجتمعات الأكاديمية والعلمية أن الصوت العلمي والمعرفي غير مسموع في كثير من الاحيان وبنسب متفاوتة حسب ديمقراطية النظام السياسي. ومع ذلك وجدت الانظمة السياسية نفسها وعلى تفاوتها الديمقراطي أنها مضطرة للجوء إلى الطبقة العلمية والاستماع لها في بدايات الأزمة لاعتبارات اقتصادية ومصالح البلاد، حتى أن موضوع الجائحة دخل في دائرة الأمن القومي. وكانت هذه التجربة ملهمة لبعض الانظمة لتعزيز الصوت العلمي والمعرفي في برامج واجندات التنمية الوطنية وبعضها الآخر استخدم العلم فقط لإدارة مرحلة خانقة لا أكثر.
تستخدم الشعوب والانظمة عادة داوت مختلفة لإبراز قضاياها على سلم أجندة الساسة، وهذه العملية ليست عملية سهلة؛ ففي بعض الأحيان يتم استخدام الإعلام بكافة أشكاله لبناء الوعي حول قضية صحية محددة مثل حاجة المنطقة لبناء مستشفى أو مركز صحي مع تجنيد رأس المال الاجتماعي في ذلك (توظيف العلاقات والروابط الاجتماعية في ذلك المجتمع لخدمة هدف معين) وغالبا ما تثمر هذه الجهود رغم أن الاحتياج لا يبرره دراسات علمية ولا برامجية -فقط استجابة للضغط المجتمعي- و في أحيان اخرى تبرز قوى مدنية ومؤسسات تدافع عن حقوق بعض الأفراد الذين يجمعهم مرض معين مثل مرضى السكري والكلى و تجمعات أخرى تضغط و تصنع مراكز قوى وثقل لأجل البيئة وحمايتها من تغول الصناعات والانبعاثات مثل الأحزاب الخضراء المنتشرة في العديد من الدول وحتى أن بعضها وصل البرلمان وقاد بشكل فاعل الحياة السياسية مثل حزب الخضر الالماني الذي انطلق مشواره السياسي منذ التسعينيات ويمتد إلى يومنا الحاضر، حيث أنهم، ولأول مرة، قدموا مرشحتهم أنالينا بيربوك للمستشارية الألمانية كخليفة للمستشارة أنغيلا ميركل.
وفي السياق ذاته، يتبنى الساسة مفهوما سطحيا عن تعريفهم للصحة وذلك عبر حصرها في (غياب المرض) وهذا تماما عكس المفهوم العلمي للصحة والذي يرى أن الصحة الجسدية والنفسية والعقلية والرفاه كلها مجتمعة تعني الصحة وليس فقط غياب المرض. إن الوعي السياسي والفكري ومستوى البرامج الانتخابية مرتبط بشكل كبير بوعي ورغبة وقدرة الجماهير والناخبين على التأثير. فقد يطالب الناخبون بإقامة مستشفى أو مركز صحي في منطقة معينة بينما يطالب آخرون بمساحات خضراء أو أماكن للمشي والركض، وآخرون يطالبون بإدخال تطبيقات الذكاء الصناعي للخدمات الصحية الحكومية. وهنا يدخل السياسيون ليصمموا برامجهم لكل المستويات التي تتصور أن الصحة هي توفير المستشفيات او للطبقة التي تراها بمفهومها الواسع (الصحي، النفسي، الاجتماعي، الجسدي، النفسي، العقلي، والترفيهي).
وفي الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والتي تنافس فيها الجمهوريون والديمقراطيون نجد أن الصحة كانت حاضر بقوة في برنامج المرشحين جو بايدن ودونالد ترمب، حيث حدد وقلص ترمب من برامج التغطية المجانية مع الكثير من التقنين المبرر وغير المبرر، بينما كان للمرشح والرئيس الحالي جو بايدن نظرة أخرى تتبنى فيها التوسعة وزيادة نسبة التغطية لتشمل فئات أوسع وبرامج صحية أكثر غنى من حيث رزم الخدمات (الأدوية والمنامات ومراجعات المرضى للمراكز الاختصاصية (العيادات الخارجية).
ونظراً لأهمية الصحة وحيوية دورها فإنها كانت محركا ودافعا للشعوب والقطاعات الحكومية لتقوم بالتبرع للحكومات وبشكل طوعي، وأذكر هنا حملات التبرع وانشاء الصناديق المؤقتة للتصدي لآثار الجائحة، حيث جاءت الدعوات من الحكومات وكانت الاستجابة مرضية إلى حد ما من القطاع الخاص والأهلي والمجتمع المحلي: صندوق وقفة عز الفلسطيني وصندوق همة وطن الأردن وغيرها من المبادرات والتبرعات في كل دولة. وهذا يدلل على مدى حساسية الصحة كمؤثر ديناميكي لصناعة وتوجيه السياسات والحفاظ على هيبة الانظمة واستمرارها في كثير من الأحيان.
وفي السياق الفلسطيني استغل الاحتلال الصهيوني البعد الصحي كأحد أدوات الحصار لشعبنا الفلسطيني على عدة مستويات منها المتعلق بحصار قطاع غزة ومنع التحويلات الطبية (منع اصدار التصاريح للخروج من غزة)، وكذلك الحال في الضفة الغربية المحتلة، حيث يتحكم الاحتلال بمنح التصاريح للمرضى الذين يحتاجون العلاج في الداخل الفلسطيني المحتل، كما أن الاحتلال أدى في كثير من الأحيان إلى تأخير وصول الحالات الطارئة عبر الحواجز العسكرية والولادات الطارئة حتى أن عدداً من تلك الولادت قد تمت على تلك الحواجز. كما أن البعد الصحي كان حاضرا بقوة في المشهد المتعلق بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، حيث أن إدارة السجون تستخدم هذه الحق كبطاقة عقابية للأسرى حيث رداءة وسوء الخدمات الصحية وقلة توافرها وتأخير مواعيد الفحوصات والعلاجات وغيرها من الممارسات التي استخدم فيها الاحتلال الصحة كأحد الادوات العقابية.
وأخيرا وليس آخرا، كان التسابق واضحا بين دول العالم للحصول على التطعيمات، حيث كان صراع الصفقات التجارية وجدلية البيع محليا أولاً أم خارجيا للدول المصنعة لدرجة أن بعض الدول أصدرت تعليمات وتوجيهات لمنع توريد أي كمية من اللقاحات المصنعة وتحت طائلة المسؤولية وادرجت هذه القضية، أيضاً، تحت قضايا الأمن القومي.
وعليه تجد الكثير من الأمثلة غير الحصرية التي ترى فيها أن الملف الصحي يقود أجندات الساسة والعكس صحيح أيضاً. ويبقى الفرق في درجة التأثير هو مستوى عراقة ورقي النظام السياسي ديمقراطياً؛ حيث أن العلاقة طردية بامتياز.
*طالب دكتوراه في الصحة العامة، فلسطين - جامعة القدس