الكاتب: العميد أحمد عيسى
بدأ الشعب الفلسطيني عامه الجديد 2022 والتشاؤم من إحداث التغيير المطلوب في واقعه الداخلي المرير هو المهيمن على عقله ونفسه وروحه وسلوكه، لإحساسه وإدراكه أن مكوناته السياسية لم تنضج بعد لمستوى اتخاذ ما يلزم من قرارات تقضي بإنهاء إنقسامه وتجمع شمله وتوحد جهده، وتصحح مسار إستثمار تضحياته التي بات من المؤكد أنها لا تنضب ولا تجف رغم طول سنوات الصراع وجسامة هذه التضحيات لصالح الأفضل للفلسطينيين، وكنت قد تطرقت لذلك قبل أسبوعين في مقالين مختلفين، حمل الأول عنوان "في قلسطين: عام ينتهي وآخر جديد يبدأ فيما الحصار والإنقسام لا زالا على حالهما"، وحمل الثاني عنوان "أهم أحداث العام 2021 في فلسطين".
إلا أن الفحص المتأني لما إنطوى عليه العام المنصرم 2021 من أحداث في البيئة الإستراتيجية الفلسطينية يظهر بوضوح أيما وضوح، أن هناك تحولات إستراتيجية قد بدأت تتراكم لصالح الحق الفلسطيني في هذا الصراع الطويل والمعقد، الأمر الذي يفرض على الفلسطينيين إجادة قراءة هذه التحولات وإحسان توظيفها في هذا البحر متلاطم الأمواج المحيط بهم في هذه اللحظة من الزمن، والأهم من ذلك إستعادة وحدتهم وترتيب صفوفهم وتحسين أدائهم، لا سيما وأن النتائج المرجوة تقوم على حسن إستغلال الطاقات الكامنة داخل صفوف الشعب، تماماً كما يقول الرئيس عباس في مقدمة كتابه "من أوسلو إلى فلسطين" المنشور العام 2020.
وتتجلى أول هذه التحولات في البيئة الفلسطينية ذاتها كونها أحد مكونات البيئة الإستراتيجية الفلسطينية، وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد عبر بوضوح عن هذه التحولات في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قي سبتمبر الماضي والذي لاقى قبولاً فلسطينياً واسعاً، حين وضع المجتمع الدولي أمام حقيقة أن الشعب الفلسطيني لم يعد بإمكانه تحمل صمت العالم أمام العنصرية الإسرائيلية، ممهلاً العالم في نفس الوقت عاماً واحداً لإختيار واحداً من خيارات ثلاثة، إما المسارعة في الإعلان عن ميلاد دولة فلسطين وعاصمتها القدس على حدود العام 1967، أو العودة لقرار تقسيم فلسطين، أو الإستعداد لخيار مواجهة خيار الدولة الواحدة العنصرية بنظامين مختلفين.
من جهتها حركة فتح كبرى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كانت قد إعتبرت هذا الخطاب خارطة طريق وطنية حركية وسياسية وذلك خلال إجتماع مجلسها الثوري الأخير الذي انعقد في مقر الرئاسة بمدينة رام الله في مطلع الشهر الجاري.
وفيما من المتوقع أن يجد هذا التحول قرارات تجسد مألاته وتداعياته القريبة والبعيدة من قبل المجلس المركزي في اجتماعه القادم، إلا أن هذه القرارات ورغم أهميتها تبقى غير كافية إذا لم يرافقها تغييرات جوهرية تخص حركة فتح ذاتها، خاصة وأن حركة فتح التي لا زالت تشكل العمود الفقري للمشروع الوطني الفلسطيني لا يمكنها إدارة هذا التحول بنفس الهيكل وبنفس الأفراد وبذات الخطاب، لا سيما وأن أول المخاطر التي تهدد بتجويف هذه التحولات وحرفها عن الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه تأتي من مراكز القوى داخل حركة فتح التي بات اضحاً أنها تجعل من تأمين نصيبها في الوراثة أولوية تعلو كل الأولويات.
أما التحول الثاني فهو إسرائيلي بامتياز ويدور حول إنزلاق إسرائيل بدون قرار رسمي نحو الدولة الواحدة غير اليهودية غير الديمقراطية، وكان عاموس يادلين الرئيس الأسبق لشعبة الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية والرئيس السابق لمعهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي قد تطرق في معرض تقرير له نُشر عشية بدء العام الجديد حول الميزان الإستراتيجي للدولة للعام 2022 حيث اعتبر يادلين أن جمود المسار السياسي بين الفلسطينيين وإسرائيل بمثابة التهديد رقم (4) لإسرائيل، لا سيما وأن هذا الجمود يقود حتماً لخيار الدولة الواحدة غير اليهودية وغير الديمقراطية حتى وإن تم إخراج غزة من الحسابات الديموغرافية.
في السياق ذاته أضاف يادلين أن إحتمالات تفكك السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية نتيجة عدم قدرتها على أداء وظائفها لأسباب الحصار المالي المفروض عليها يضع عبئ الفلسطينيين على كاهل إسرائيل ويسرع من وتيرة حدوث هذا التهديد.
ويدور التحول الثالث حول ما يجري في إقليم الشرق الأوسط من تحولات خاصة تلك التحولات الخاصة بعلاقة وحدات الإقليم بدولة إسرائيل، إذ تنقسم هذه الوحدات إلى معسكرين إثنين، المعسكر الأول إنحاز بشكل كامل لصالح الرواية الصهيونية من خلال ما يعرف بالتطبيع إتفاقية أبراهام، أما المعسكر الثاني والذي يتكون من دول ومنظمات غير دولتية، فلا زال ينادي بزوال دولة إسرائيل من المنطقة.
اللافت هنا أن القوة العسكرية للمعسكر الثاني تتعاظم بوتيرة سريعة، وكان يادلين قد وضع هذا المعسكر في مرتبة التهديدات رقم (2،3) للأمن القومي الإسرائيلي، فيما إحتل التطبيع المرتبة رقم (3) في قائمة نقاط القوة التي خرجت بها إسرائيل من العام 2021.
أما التحول الرابع فيتعلق بالمكون الدولي للبيئة الإستراتيجية الفلسطينية، وتحتل التحولات الجارية على الساحة الأمريكية العنوان الأبرز في هذه التحولات التي ستكتفي هذا المقالة بتناولها، وذلك للأهمية الإستراتيجية لعلاقة إسرائيل بأمريكا، خاصة وأن الإعتماد على الأخيرة يشكل أحد ركائز أمنها القومي، وهذا بالطبع لا يقلل من اهمية التحولات الجارية على صعيد مناطق أخرى في العالم.
وفي شأن التحولات الجارية في الساحة الأمريكية فهي بلا شك تحولات عميقة وتنبع من فقدان الغرب خاصة أمريكا القدرة على التبرير للشعوب في الغرب الإنزياح الكامل لحكوماته للعنصرية الإسرائيلية التي باتت واضحة ومكشوفة ومثبتة بالأدلة والقرائن، والمهم هنا أن هذه التحولات تجري بخطى متسارعة على صعيد الرأي العام، لا سيما في أوساط الأكاديميين والمثقفين والطلاب وداخل الكنائس وفي أوساط الإعلاميين خاصة في أوساط الجاليات اليهودية الأمر الذي سيكون له تجلياته السياسية في المدى المتوسط والبعيد.
من جهته، سلط يادلين في تقريره كثير من الضوء على الفجوة الآخذة بالتزايد في المواقف بين واشنطن وتل أبيب من عدة قضايا خاصة فيما يتعلق بحل الدولتين والبرنامج النووي الإيراني، حيث وضع يادلين، إستمرار تراجع الإهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط، عدم إدراجها محاربة الإرهاب الذي يعتبر الشرق الأوسط مركزه، كتهديد رقم (1) للأمن القومي الإسرائيلي.
وعلى ذلك يبدو أن الفلسطينيين قد باشروا عامهم الجديد 2022 بميزان إستراتيجي تفوق فيه الفرص أو ربما تعادل التهديدات، الأمر الذي يوجب عليهم معالجة نقاط الضعف وتعظيم نقاط القوة و أول نقاط الضعف تبدأ من الذات عملاً بقوله تعالى في سورة {الرعد: 11} "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
وفي الختام تبقى هذه المقالة مجرد تحليل، نأمل أن يكون نصيبه من الصواب أكثر من نصيبه من الخطأ.