الكاتب: د. مصطفى يوسف اللداوي
تتمتع الجزائر بمكانةٍ عظيمةٍ لدى الشعب الفلسطيني كله، الذي يدرك صدقها ويشعر بحبها، ويلمس خيرها ويصله عطاؤها، ويستقوي بمواقفها ويصمد بدعمها، ويعتمد عليها ويطمئن إليها، ويثق فيها ويأمن معها، ويذكر مواقفها التاريخية ولا ينسى ثوابتها القومية، مما جعلها واحدةً من أكثر الدول العربية صدقاً مع فلسطين، ووصلاً لأهلها، ودعماً لشعبها، وثباتاً على مواقفها، وإيماناً بواجبها.
فهي حكومةً وشعباً، وبرلماناً ومؤسساتٍ، ونقاباتٍ وهيئاتٍ، واتحادات وتجمعاتٍ، لا تنفك تؤيد الفلسطينيين وتناصر قضيتهم، وتدعمهم بالمال وتحميهم بالسياسة، وتقدمهم على نفسها، وتؤثرهم على مصالحها ولو كان بها خصاصة، وتؤيدهم ولو كانوا منافسين لها، أو أنداداً في الملاعب ضدها، وتراهم خير الشعوب وأفضل الأمم، قد اختصهم الله عز وجل دون سائر العرب بأقدس أرضٍ وأشرف قضيةٍ، وجعلهم مرابطين في المسجد الأقصى وأكنافه، ووصفهم على لسان رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، بأنهم على الحق ظاهرين، ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا يضعفهم من انقلب عليهم أو تخلى عنهم.
لا يشك فلسطينيٌ في مواقف الجزائريين ونواياهم، ولا يتهمهم في مسعاهم أو يقلل من غيرتهم، ولا يستخف بمشاعرهم أو يشكك في أحاسيسهم، ولا يبخسهم فضلهم ولا ينكر دورهم، فتاريخهم تجاه فلسطين ناصحٌ، وسجلهم بالفضائل عامرٌ، ويوميات شعبهم تجاه القضية الفلسطينية عموماً مشرفة، يترجمونها كل يومٍ كلمةً وموقفاً، وتأييداً وحراكاً، ودعماً ومناصرةً، وشعار رئيسهم الأسبق هواري بومدين "أن الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومةٌ" شعارٌ دائم ومعمول به لديهم أبداً، يفتخرون به ويصرون عليه، وقد رفضوا في الأشهر القليلة الماضية أن يهزم فريق كرة القدم الفلسطيني على أرضهم، وآثروا أن ينتصر على منتخبهم القومي، فشجعوه وأيدوه على أرضهم، ومن داخل ملاعبهم، لأنه فريق فلسطين التي يحبون ويجلون.
يشعر الجزائريون بمعاناة الشعب الفلسطيني ويقدرون تضحياته ويعظمون مقاومته، ويرون أن الثمن الذي يقدمه في سبيل الحرية والتحرير هو أمرٌ طبيعي، وهو متوقع ضمن سنة الحياة وصيرورة الثورات، فما من ثورةٍ انتصرت دون مقاومة، وما من شعبٍ تحررت أرضه واستعاد حريته وكرامته دون تضحية ودماء وآلام.
إلا أن حال الفلسطينيين الداخلي قد آلمهم كثيراً، وأزعجهم الانقسام البغيض وأقلقهم استمراره، وآذاهم كثيراً الخلافات بين فصائلهم، والتناقضات بين تنظيماتهم، وحالة التشرذم القائمة في صفوفهم، ولسان حالهم يقول، قد كان الأجدر بهم، وهم جميعاً يعانون من الاحتلال ويقاسون من سياساته، أن يتفقوا ويتحدوا، وأن ينبذوا الخلافات ويبتعدوا عن التناقضات، وأن ينتبهوا إلى هموم شعبهم وأن يلتفتوا إلى مشاكله وحاجاته.
فالعدو فرحٌ بخلافهم، وسعيدٌ بانقسامهم، ولا يعنيه أبداً اتفاقهم، بل إنه يسعى لتوسيع الهوة وتراكم الخلافات بينهم، فهو بالانقسام يعيش، وبالصراع الداخلي الفلسطيني يأمن ويطمئن، وينام قرير العين هادئ البال، ولعله هو الذي يؤخر الاتفاق ويضغط على بعض الأطراف لتتشدد في شروطها، وتتصلب في مواقفها، وترفض الاتفاق وتعارض المصالحة إلا بشروطها المهينة، وسياساتها الخاطئة التي لا يقبل بها الشعب، ولا توافق عليها شعوب الأمة.
لهذا كانت دعوة الحكومة الجزائرية لجميع القوى الفلسطينية الحاضرة في المشهد السياسي، والفاعلة على الأرض، والعاملة في صفوف المقاومة، ليلتقوا على أرض الجزائر العظيمة وفي ضيافتها، ويتحاوروا فيما بينهم برعايتها ومباركتها، وكلها أمل أن يتوافقوا فيما بينهم، وأن يتجاوزوا خلافاتهم، وينهضوا بشؤونهم، وينشغلوا بهموم شعبهم وقضيته، التي استنزفته وأضنته سياسات العدو الغاشمة ضده، الذي بات في ظل الانقسام البغيض والخلاف المستأصل، يمارسها ويمعن فيها بلا خوفٍ ولا تردد، قتلاً واعتقالاً ومصادرةً لأرضهم، وهدماً لبيوتهم، وطرداً لأهلهم، وحرماناً لهم من العيش الكريم الآمن في بيوتهم وديارهم.
إلا أن هذه الدعوات الخاصة يجب أن تستكمل بدعوة بقية القوى والفصائل، أياً كان حجمها وتمثيلها ودرجة تأثيرها، فلكلٍ منها دورها وأثرها، ولديها رأيها وعندها معلوماتها، ويمكنها مجتمعةً أو متفرقةً أن تؤثر في الحوار، انعقاداً ونقاشاً ونتيجة، تسهيلاً أو تعقيداً، ولا بأس من استشارة بعض العارفين بالشأن الفلسطيني، والمتابعين لمراحل الحوار ومحطات اللقاء، والعالمين ببواطن الأمور ونقاط الخلاف وأسباب الاشتباك، فقد يكون لدى بعض الخبراء والمتابعين، ما ييسر مهمة الحكومة الجزائرية النبيلة، ويوفر عليها الجهد والوقت.
نأمل ألا تتوقف الحكومة الجزائرية عند دعوة واستضافة الفصائل الفلسطينية الست، التي آثرت أن تلتقيهم على انفرادٍ، وأن تستمع لممثليهم باهتمامٍ وتقديرٍ، وإن كنا نرى أن هذه الخطوة الابتدائية مهمة وضرورية، لتتمكن من جمع المعلومات الكافية، واستكمال الصورة المطلوبة، ووضع التصور الأنسب والأشمل لجمع القوى الفلسطينية بعد ذلك في وقتٍ واحدٍ، وقاعةٍ واحدة، ليكون الحوار مباشراً وصريحاً، وجدياً ومسؤولاً، خاصةً أن التنظيمات المدعوة هي الأكثر حضوراً وفعالية، وتتمتع بدرجاتٍ متفاوتة في التأثير والضغط، إلى جانب طرفي الانقسام والمتنفذين الحقيقيين في رام الله وغزة، الذين يملكون القرارات العملية، ويستطيعون إن أرادوا تسهيل المهمة وتجاوز العقبات وإزالة العثرات وتدوير الزوايا وحل العقد المستعصية.
ليست الرعاية الجزائرية للحوار الوطني الفلسطيني الشامل هي الأولى والوحيدة، والتي أرى أنها لن تكون الخاتمة أو الأخيرة، وإن كنت آمل وكل الشعب الفلسطيني أن تكون هي الشافية والمنجية، والمنقذة والمخلصة، فقد سبقتها إلى جانب حوارات القاهرة العديدة على مدى العقدين الأخيرين، حوارات كثيرة واستضافاتٌ مختلفة، عقدت في عواصم ومدن عربية ودولية كثيرة، في مكة والدوحة ودكار وبيروت وقديماً في الخرطوم، فضلاً عن محاولاتٍ كثيرة قامت بها موسكو، إلا أنها لم تتمكن من رأب الصدع الفلسطيني وجمع كلمته وتوحيد صفه، لكن نبل الهدف وسمو المهمة وشرف الغاية، يفرض على كل المخلصين والأغيار، المحبين لفلسطين، المحاولة دوماً والعمل بصدقٍ وإخلاص، لتمكين الفلسطينيين من استعادة رونقهم القديم، وبهائهم الأصيل، وعدالة قضيتهم السياسية والإنسانية.
بيروت في 24/1/2022