الكاتب: إبراهيم ابراش
لا نروم من العودة لمقاربة ظاهرة الأحزاب في الحالة الفلسطينية اتخاذ موقف قاطع من الأحزاب سلبا أو إيجابا بل لتبديد الوهم أو أية مراهنة تربط مصير القضية الفلسطينية بالأحزاب وقياداتها الراهنة سواء كانت أحزاب وفصائل مقاومة كما تسمي نفسها أو احزاب سياسية سلمية، أيضا لتجنب الحُكم على القضية وعدالتها من خلال ممارسات وأيديولوجيات الأحزاب، وخصوصا أن الشعب ينظر وينتظر بقلق وشك لجهود الجزائر لإنجاز مصالحة بين الأحزاب التي ما زالت متعنتة ومتمسكة بمواقفها، وهي المصالحة التي في حالة تحقيقها قد تحرك الحالة الوطنية وتخرجها من المأزق الذي تعيشه.
وظيفة الأحزاب السياسية في الدول المستقلة والديمقراطية القيام بالتنشئة والمشاركة السياسية وتجسيد حرية الرأي والتعبير كما انها إحدى آليات الديمقراطية لتداول السلطة سلميا، والدستور ينظم عمل الأحزاب. كل دول العالم المتحضر تعرف ظاهرة الأحزاب بأنظمتها الثلاثة – الحزب الواحد والثنائية الحزبية والتعددية الحزبية- ولكنها لا ترهن مصيرها بحزب أو أحزاب بعينها أو بزعيم وقائد مهما علت درجته، فالأحزاب والقيادات تظهر ضمن معطيات معينة ولأهداف معينة وتتلاشى وتموت ويحل غيرها أو يتوالد بعضها من بعض.
في الحالة الفلسطينية حيث تخضع كل فلسطين للاحتلال وتتداخل مرحلة التحرر الوطني مع مرحلة السلطة والإعداد للدولة ولا يوجد قانون للأحزاب حتى الآن بالرغم من أن القانون الأساسي للسلطة نص على حرية تشكيل الأحزاب، لكل ذلك تلتبس شرعية الأحزاب ويلتبس دورها بالتباس المرحلة والنظام السياسي نفسه ثم بانقسامه.
أبرز تجليات الالتباس في الشرعية والوظيفة تدور حول ما إن كانت الأحزاب فصائل مقاومة مسلحة ضد الاحتلال أم أحزاب سلطة سياسية؟ وهل مهمتها مقاومة الاحتلال كما تنص كل أدبياتها وبيانات انطلاقتها الأولى أم الصراع والتنافس على سلطة تحت الاحتلال؟ وهل ما زالت الفاعل الرئيس في النظام السياسي الفلسطيني أم بات دورها هامشيا إن لم تصبح عبئا على القضية كما يزعم البعض؟ أيضا التباس معايير التمييز بين أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة حيث حماس مثلا حزب معارضة في سلطة حركة فتح في الضفة الغربية بينما حركة فتح تعتبر معارضة في سلطة حماس في غزة، كما أن يلتبس تموقع احزاب اخرى، مثل الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحركة الجهاد الإسلامي، ما إن كانت أحزاب سلطة أو احزاب معارضة بالنسبة لسلطتي غزة والضفة ؟.
الأحزاب والفصائل الوطنية اكتسبت شرعيتها عند تأسيسها من التفاف الشعب حولها وحول نهجها الكفاحي ضد الاحتلال وليس من صناديق الانتخابات وحتى ليس على أساس أيديولوجي، حيث الشعب لم ينتخب قيادة حركة فتح وكل قيادات منظمة التحرير بل منح ثقته بهذه الأحزاب والتف حولها لدورها النضالي في مواجهة الاحتلال ولأنها انبثقت من وسط الشعب وعبرت عن طموحاته واهدافه الوطنية واعتمد الشعب منظمة التحرير ممثلا عنه بتوافق كل الأحزاب والفصائل المتواجدة آنذاك وغالبية دول العالم اعتمدت منظمة التحرير بهذه الصفة لاحقا، وبالنسبة للأحزاب خارج منظمة التحرير والتي ظهرت لاحقا كحركتي حماس والجهاد الإسلامي فقد استقطبت جزءا من الشعب بسبب دورها في مواجهة الاحتلال ولم ينتخبها الشعب أو يعتمدها ممثلا عنه، والانتخابات العامة-رئاسية وتشريعية وبلدية- التي جرت لاحقا بعد قيام السلطة منحت الأحزاب الفائزة شرعية نسبية مؤقتة لها علاقة بالمشاركة في ممارسة سلطة الحكم الذاتي في الضفة وغزة في ظل الاحتلال، وليس شرعية مطلقة أو شرعية لتمثيل كل الشعب الفلسطيني.
حديثنا عن الأحزاب كحزمة واحدة لا يعني عدم وجود فوارق بينها من حيث عدد المنتسبين لها أو أيديولوجيتها أو دورها الوطني وما انجزته لصالح القضية. فإن كانت بعض الأحزاب لعبت دوراً ملموسا في استنهاض الحالة الوطنية وأخرى كان دورها سلبيا في هذا المجال إلا أنها جميعا الآن تشهد حالة ضعف وتفكك داخلي وعجز عن مواجهة التحديات التي تواجه القضية الوطنية، وهناك فجوة كبيرة بينها وبين الشعب وبينها وبين أهدافها الأولى..
حاولت إسرائيل وما زالت اسقاط أزمة الأحزاب والنظام السياسي على القضية بشكل عام من خلال الزعم بأن فشل الأحزاب أو مأزقها يعني فشل القضية وفقدانها لشرعيتها، بينما في واقع الأمر أن سبب كل مشاكل الشرق الأوسط ومصائب الشعب الفلسطيني تعود لإسرائيل الكيان الاستيطاني العنصري، وأن الاحتلال والاستيطان موجودان قبل أن تتواجد الأحزاب، كما ان المنتسبين للأحزاب لا يمثلون إلا نسبة محدودة من الشعب كما أن الأحزاب حالة عابرة على القضية ومصير القضية ليس مرتبطا أو رهينا بمصيرها.
عملية إسقاط أزمة الأحزاب على القضية الوطنية أدت لكي وعي العقل السياسي للبعض الفلسطيني وخصوصا لمنتسبي الأحزاب المتصارعة على السلطة بحيث بتنا نسمع اتهامات متبادلة، كتحميل المنظمة وحركة فتج المسؤولية عن الانقسام وتراجع القضية واستمرار الاحتلال والاستيطان، أو تحميل حركة حماس وفصائل المقاومة خارج منظمة التحرير هذه المسؤولية، متجاهلين أن إسرائيل هي المسؤولة الأولى عن كل مصائبنا.
ودعونا نتفحص صحة ما تقوله حركة حماس بأن حركة فتح والسلطة السبب فيما آلت إليه القضية من تدهور، ولنفترض أن بوابة السماء انفتحت وتقبلت دعوات وابتهالات الساخطين على فتح ومنظومتها المؤسساتية وأبادهم الله عن بكرة أبيهم، فهل كانت إسرائيل ستزول من الوجود أو أن مشروع حماس ومن يواليها من الفصائل سيحقق أهدافه المعلنة في أدبياتها وعلى رأسها القضاء على الكيان الصهيوني ؟ ويمكن أن نفترض نفس الأمر بالنسبة إلى ما تقوله حركة فتح ومنظومتها والتي تُحمِّل حركة حماس مسؤولية تردي الحالة الوطنية وما يحققه الكيان الصهيوني من نجاح، فهل عدم وجود حماس أصلا أو غيابها الآن سيغير كثيرا من معادلة الصراع وتوازناته وتقوم الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس ؟ .
الجواب ببساطة هو النفي في كلا الحالتين، ليس هذا دفاعا عن الأحزاب بل لأن الكيان الصهيوني ومشروعه التوسعي موجود قبل أن تظهر الأحزاب والفصائل الفلسطينية المذكورة، فهو موجود بها أو بدونها وبالتالي ليست هي المسؤولة الأولى عن تقدم المشروع الصهيوني وتراجع المشروع الوطني ومن الخطأ رهن مصير القضية الوطنية بالأحزاب .
صحيح أنه لو أحسنت الفصائل التصرف ووحدت جهودها لكان من الممكن تعطيل أو تأخير المشروع الصهيوني وربما حققت الأهداف المرحلية وهي إجبار إسرائيل على الانصياع لقرارات الشرعية الدولية والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، أيضا لو تصرفت بطريقة وطنية صحيحة بعيدا عن المصالح الضيقة والاجندات الخارجية لحافظت على وحدة الشعب وكرامته ومنعت الانقسام الذي حوًّل الشعب إلى مجرد جموع تتسول المساعدات من أية جهة كانت، وما كان هذا التسابق العربي نحو التطبيع.
في ظل الواقع الراهن المأزوم لجميع الأحزاب، ومع ان بعضها مجرد عناوين وتحمل مسميات كبيرة وتعود لزمن ولى وليس لها أي حضور شعبي فاعل الآن، وأخرى تشتغل بأجندة إسلامية خارجية، إلا أن الحالة الفلسطينية لم تنتج أحزابا وطنية جديدة، وهذا الأمر يستحق الدراسة والتمعن في الأسباب.
الخطير في الأمر ظهور طبقة سياسية عابرة للأحزاب والأيديولوجيات هي التي تتحكم في النظام السياسي في غزة والضفة وهذه الطبقة السياسية لا تستمد شرعيتها ومصدر قوتها من الشعب أو من ايديولوجية معينة بل من تحكمها بالسلطة ومصدر رزق الناس كما تصادر المشروع الوطني ومشروع المقاومة وتوظف الأحزاب أيضا لخدمة مصالحها الخاصة وارتباطاتها بجهات خارجية، وهناك تنسيق وتفاهمات ضمنية ما بين الطبقة السياسية الحاكمة في غزة ونظيرتها في الضفة .
وأخيرا، ليس أمام الشعب الفلسطيني إلا مواصلة النضال بالأحزاب القائمة إن امكن، أو بدونها، حتى لا يكون مصير القضية الوطنية ومصير الأحزاب نفس مصير القضية والأحزاب قبل نكبة 1948 حيث آلت الأمور إلى ضياع فلسطين ونهاية كل الأحزاب التي كانت متواجدة قبل النكبة.