الكاتب:
حسن محاريق
في خضم الأحداث المتسارعة على الحدود الأوكرانية الروسية والتوتر المتزايد، الذي دفع بكثير من دول العالم إلى الانخراط في جهود دبلوماسية لتخفيف التوتر والبحث عن سبل سلمية قد تجنب الأوكرانيين الحرب، وما قد تؤديه من تغيير في معادلة القوى السياسية القائمة في عصرنا الحالي. وتثير هذه الأزمة العديد من الأسئلة في أذهان الأوروبيين خاصة والعالم عامة مستذكرين أهوال الحرب العالمية الأولى والثانية قبل سبعة عقود، أسفرت عن مقتل ملايين الضحايا واندثار بلدان ومدن وحضارات تحت نيران ردم الحروب المستعرة بين القوى الدولية حينها.
وأهم سؤال وجودي قد تثيره هذه الأزمة هو "هل يمكن تغير طبيعة التاريخ البشري؟" أم أن هذا التاريخ يعيد نفسه ويعيد معه الأحداث المأساوية من جديد؟، وأن ما يتغير فقط هو الأسباب والأماكن وغيرها من "ديكور الحدث".
هناك مدراس فكرية عديدة نشأت واستمرت في تقديم الأسباب والتحليل لطبيعة التاريخ البشري، وانقسمت على أساس الجوهر الذي يتحكم في مصير البشر وسلوكهم وطبيعة علاقات القوة التي تحكم مجتمعاتهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض. فمن هذه المدارس الفكرية ما تتجاهل إمكانية التغيير في المصير المحتوم للمجتمعات البشرية، وتدعي أن قانون الغاب هو القانون السائد والمتحكم في العلاقات الدولية بين الأمم والدول القائمة على مر التاريخ، والقوي يأكل الضعيف، ولا مفر من تقوية وتطوير القدرات العسكرية كوسيلة للحماية من الغزو والاحتلال. وترى هذه المدرسة أن كل من يؤمن بغير حكم قانون الغاب هو مغفل ويعرض وجودة لخطر الإبادة والاستعباد.
مدرسة فكرية أخرى تقع على النقيض من القانون المعرف لدى المجتمعات البشرية بقانون الغاب وتدعي أن هذا القانون ليس قانوناً طبيعياً وأن بإمكان المجتمعات البشرية أن تتحكم بمصيرها، وأن الحرب والغزو ليس عنصراً جوهرياً في الطبيعة البشرية، وهذا ما أثبته علم السجلات الأثرية التي تتبعت تاريخ المجتمعات البشرية وتطورها حيث أن أول حرب سجلت بين المجتمعات البشرية قبل 13,000 سنة، وحتى الاكتشافات التي أرخت مراحل التاريخ البشري اللاحقة، كانت لسنوات طويلة خالية من الحروب.
وتعتبر هذه المدرسة أن الحرب والعنف ليس كقانون الجاذبية ولا مكوناً أساسياً في قوى الطبيعة، وإنما تعتمد في شدتها وضراوتها على العوامل الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية، وأن هذه العوامل يمكن للبشر التحكم بها وتغييرها لصالح الوجهة التي يريدون وبإمكانهم اختيار هذه العوامل كبناء لحالة السلم أو الانجرار للحرب.
إن أخر الحروب الشاملة التي شهدها العالم بين القوى العالمية العظمى هي الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من تحولاتها بأشكال مختلفة من حرب الوكالة أو الحرب الأهلية على مستويات صغيرة نسبياً إلا أنها تعتبر الحرب الشاهد والماثل أمامنا في التاريخ الحديث حيث قررت المجتمعات البشرية حينها خوض مغامرة الانتحار الجماعي بلا رجعة.
ومنذ نهاية الحرب وحسمها شهد الاقتصاد العالمي تطوراً متسارعاً بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري، ولأول مرة في تاريخ الاقتصاد العالمي شهد تحولاً كبيراً في طبيعته المصادر المتحكمة به، فبعد أن كانت المصادر الأساسية للثروة هي المادة من الذهب والنفط والمعادن، أصبح المصدر الرئيسي لتراكم ثروات الأمم هي المعلومات، كمصدر للتطوير والتنمية وبناء الثروة، حيث كانت سبباً في إدراك قادة دول العالم أن لا فائدة اقتصادية من الغزو والاحتلال والسيطرة على الثروات المادية لدول أخرى.
وعلى المستوى الثقافي شهدت العقود الماضية سيطرة عالمية لفئة النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية التي قادت حكومات العالم ورأت في الحرب مصدراً للشر والتدمير وأمنت أن لا مكاسب من وراءها، بل يجب على دول العالم أن تتعاون في سبيل تجنبها. وكنتيجة لهذا التغيير أصبح من غير المقبول لدى حكومات دول العالم أن تظهر القوة وتستخدمها في تحقيق مصالحها، وتوقفت الدول عن تخيلاتها وتمجيدها للغزو والسيطرة والضم للدول المجاورة لها. ومثال ذلك وببساطة لم تعد القوة وحدها التي ردعت البرازيل عن غزو جارتها الأوروغوي ومنعت اسبانيا من عزو المغرب.
انخفضت وتيرة اشعال الحروب بين القوى الدولية منذ العام 1945 بشكل كبير، حتى أظهرت الإحصائيات أن عدد البشر الذين يموتون بسبب حوادث السير والسمنة والانتحار أكثر بكثير ممن لقوا حتفهم بسبب الحروب والصراعات. وبالمحصلة وعلى الرغم من استقطاب المؤرخين والباحثين بين فكر المدرستين إلا أن هناك إثبات واضح في انخفاض عدد الحروب الرئيسية وتطور مفهوم السلام العالمي حيث كان يراه البشر في الماضي بأنه الفترة الزمنية المؤقتة التي لا يحدث فيها الصدام المباشر كالتي سادت في العام 1913 عندما وقعت فرنسا وألمانيا اتفاقية السلام، حيث رأى الشعبان أنها مسألة وقت لاندلاع حرب جديدة بين الدولتين.
وطيلة العقود الماضية التي تلت الحرب العالمية الثانية تطور مفهوم السلام ليصبح مستدام وأصبح مفهوم الحروب والغزو غير مبرر لدى غالبية الشعوب والحكومات والدليل أن الإنفاق على التسلح وبناء الجيوش تقلص لمستويات ملفته حتى تصل أحياناً لمعدل 6.5% من مجمل الإنفاق العام، وفي المقابل زادت معدلات الإنفاق على التعليم والصحة والحماية الاجتماعية. بينما سادت فترات في تاريخ البشرية كان إنفاق الملوك والقياصرة يقتصر على الحروب وتمويل حملات غزو لأراضي الدول المجاورة.
وفي المحصلة، إن ما حققته الحضارة البشرية الحديثة من تطوير لمفاهيم حقوق الإنسان ومحاربة النعرات الوطنية والتمييز وممارسة العنصرية يعتبر انجازاً بشرياً متقدماً طال أرجاء المعمورة ولو بشكل نسبي لبعضها، وجاء هذا نتيجة اختيار المجتمعات البشرية خيارات أفضل في التعامل مع العوامل الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية والسياسية التي من شأنها أن تساعد الدول في تجنب الحروب ومآسيها.
وقد تذكرنا الأزمة الحالية، أن هناك ما قد نتعلمه من تاريخ أوكرانيا كشعب حاول لمرات ومرات جاهداً بناء دولته المستقلة، بعيدة عن تدخلات واستئساد الدول العظمى، ومر تاريخ هذه الدولة من نظام ديكتاتوري إلى احتلال نازي ومن ثم الحكم بالنار والحديد في عهد ستالين، وحين انهار الاتحاد السوفيتي وعلى الرغم من كم الكوارث والفقر والتشظي الذي حدث لهذا البلد إلى أن شعبها صمم تحسين اختياراته في رفض كل الأنظمة الديكتاتورية والثورة عليها، حتى استطاع بناء نظام سياسي ديمقراطي قادر على استدامة حالة السلام لهذا الشعب.
إن الانجرار للحرب هو سوء تقدير لخيارات البشر وستضع هذه الأزمة كل ما أنجزه البشر لغاية اللحظة على المحك، سوف تؤدي الحرب في حال حدوثها إلى نسف ما وصلت له الحضارة البشرية في حالة السلم، وتعيد المفاهيم القائمة في العلاقات الدولية للمراجعة، ستؤدي من جديد إلى جعل حكومات الدول الصغيرة نسبياً تعيد حساباتها بشأن التسلح وأن تبحث عن تحالفات لصالح حمايتها من غزو الدول القوية، وتفتح شهية الدول العظمى للسيطرة والغزو المباشر، ستعيد هذه الحرب حسابات قانون الغاب للواقع من جديد. ليس هذا فحسب فمجمل القضايا التي تواجه العالم اليوم هي كونية بطبيعتها وتحتاج إلى التعاون والتنسيق أكثر من أي وقت مضى لإنقاذ مصير البشرية، فقضايا تغير المناخ والذكاء الاصطناعي وهندسة الجينات هي قضايا العصر الحالي والتي تتهدد مصير الأمم الحديثة وتحتاج إلى تعاون وتنسيق دولي لتنظيمها، بل وتسخيرها لصالح رفعة حضارة الإنسان بدلاً من أن تكون أداة هدم وتدمير.