الكاتب: هاني المصري
قبل اتخاذ موقف فلسطيني مما يجري في أوكرانيا، لا بدّ أن نأخذ في الحسبان ما يأتي:
أولًا: ما يجري في أوكرانيا أحد تجليّات الصراع على قيادة العالم بين أقطاب عدة، أهمها الصين وأميركا. فالعالم بعد الحرب العالمية الثانية، مرّ بمرحلة ثنائية القطبية بين الاتحاد السوفييتي وأميركا، ومن ثم مرحلة الأحادية القطبية الأميركية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991، وكانت أسوأ مرحلة بلا منازع. والآن، ومنذ سنوات، يمر بمرحلة انتقالية ستنتهي إما إلى العودة، ثانية، إلى ثنائية القطبية، أو إلى نشوء تعددية قطبية، أو أحادية قطبية صينية، أو إلى عالم جديد.
إن الإدارات الأميركية، خصوصًا من إدارة باراك أوباما، ومرورًا بإدارة دونالد ترامب، وانتهاء بالإدارة الحالية برئاسة جو بايدن؛ تحاول إيقاف عجلة التاريخ، وفي الحد الأقصى تسعى لمنع إنهاء السيطرة الأحادية الأميركية، معتمدة على الأوراق القوية التي لا تزال تملكها، وتتفوق فيها، اقتصاديًا وثقافيًا وعسكريًا، وبخاصة القوة الناعمة، وتحكّمها بالدولار العملة العالمية. وفي الحد الأدنى، تحاول البقاء باعتبارها دولة عظمى تنافس على قيادة العالم مع دولة واحدة، وليس مع دول عدة، والشاهد الأكبر على ما سبق أن الصين تتقدم اقتصاديًا، وبالتالي في كل المجالات، وخصوصًا تكنولوجيًا، والفارق الذي كان هائلًا بينها وبين أميركا في كل المجالات إما أنه زال وتقدمت الصين في جوانب، أو بات أقل من السابق، وما هي إلا مسألة وقت لتصبح الصين، إن لم تكن قد أصبحت، على قدر المساواة، وربما القوة العظمى الأولى.
في هذا السياق، يمكن تفسير تراجع أميركا في مناطق عدة في العالم، مثل ما حدث من انسحاب مخزٍ من أفغانستان، وسعيها إلى الاتفاق مع إيران تارة، وإلى السعي لاحتوائها عبر مواصلة وتشديد العقوبات تارة أخرى، والعمل على وقف تقدم روسيا، وحصارها، وإضعافها، والعمل على تقسيمها فيما بعد، لمنع تبلور التحالف الصيني الروسي، خصوصًا في ظل التقارب الصيني الروسي غير المسبوق، وتراجع أو كما تسميه إعادة تموضع وجودها واهتمامها فيما يجري في الشرق الأوسط؛ ما وفر الأرضية لتغيير واسع في المنطقة، كما يظهر في ازدياد التنافس بين إيران وإسرائيل وتركيا، وإعادة النظر في الأولويات والتحالفات، كما ظهر في تطبيع عدد من البلدان العربية مع إسرائيل، والشروع في إقامة نوع من التحالف ضد إيران.
ثانيًا: إدراك روسيا أن العالم يتغير، وأن أمامها فرصة لاستعادة دورها التاريخي باعتبارها دولة عظمى، وحماية أمنها القومي، وإزالة الغبن الذي تعرضت له بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانضمام معظم الدول التي كانت جزءًا منه إلى المعسكر الآخر، وإلى حلف الناتو الذي لم يُحلّ رغم حل حلف وارسو، رغم التعهد الأميركي الذي مُنِحَ لها بعدم ضمها للناتو، بل تم تدعيمه لأنه إحدى أدوات السيطرة الأميركية على العالم، وخصوصًا على أوروبا.
وقامت روسيا في عام 2008 بمنع جورجيا من الانضمام إلى الناتو، ودعمت قيام إقليمَيْن انفصاليَيْن، ثم ضمت جزيرة القرم عام 2014 على أساس أنها مُنِحَت لأوكرانيا من قبل الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف في العام 1954، وهي اليوم تعترف باستقلال إقليمي دونيتسك ولوغانسك، بعد مرور حوالي ثماني سنوات على الاستفتاء الذي جرى فيهما، واختارت أغلبية السكان فيهما الانفصال عن أوكرانيا.
وهنا، لا بد من ملاحظة أن الولايات المتحدة هي التي حرضت البلدان في أوروبا الشرقية على الانضمام إلى حلف الناتو، وكانت ولا تزال تدفع إلى ذلك بالترغيب والترهيب. فشجعت على سبيل المثال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على عدم تطبيق اتفاقية مينسك، رغم أنه غداة توليه سدة الرئاسة أعلن أنه مستعد للركوع لتجنب الحرب العسكرية، ثم شرب حليب السباع بتحريض أميركي بريطاني، لدرجة إيهامه بأن قوات من حلف الأطلسي يمكن أن ترابط في بلاده، وضغطت على ألمانيا لعدم تعزيز علاقاتها مع روسيا، وعدم التوقيع، ولا المضي في تنفيذ خط نورستريم 2، فالهدف الأول من التحريض والتهديد الأميركيين محاصرة روسيا، وإضعافها، وصولًا إلى تقسيمها ومنعها من تعزيز العلاقات مع الصين المنافس الأكبر لها، ووقف توسيع علاقاتها مع أوروبا، لا سيما مع ألمانيا؛ لإبقاء الهيمنة الأميركية على أوروبا.
ثالثًا: الروابط التاريخية عميقة ومتنوعة وحديثة بين روسيا وأوكرانيا، فحوالي 17% من سكان أوكرانيا روس، وغالبية السكان يتكلمون الروسية، التي يعود أصلها إلى اللغة السلافية ذات الأصل الأوكراني. كما أن مصير روسيا مرتبط إلى حد كبير بعلاقتها مع أوكرانيا، لدرجةٍ أن زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن الأميركي السابق، كان يرى بأن عودة روسيا لكي تكون دولة عظمى أو لا مرتبط بنوع علاقتها مع أوكرانيا حليفة أو عدوة لها، وهنا لا تجوز المقارنة بين علاقة روسيا بأوكرانيا اللتين كانتا قبل عشرات السنين أجزاءً في بلد واحد، وعلاقة اليهود بأرض الميعاد، فالخلاف بين الحالتين كبير جدًا، فيكفي أن إسرائيل قامت لتجسيد مشروع استعماري استيطاني إحلالي توسعي عدواني قام على هذا الأساس، ولا يزال كما كان.
رابعًا: لا بد أن نعرف أن رئيس أوكرانيا يهودي، ولا يوجد مشكلة في ذلك، وإنما هو صهيوني وحامل للجنسية الإسرائيلية، وكذلك رئيس وزرائه وعدد من وزراء حكومته صهاينة، وهو دمية في يد واشنطن التي تصدع رؤوسنا ليل نهار بالحديث عن سيادة الدول، وحقوقها واستقلالها، ومبادئ السلم والأمن الدوليين. وكان موقف زيلينسكي معاديًا للعراق، وأيد القرار الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وأيّد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وكان موقفه معاديًا للفلسطينيين حتى فيما يتعلق بعمليات الاقتلاع والتطهير العرقي في الشيخ جراح، وليس مستبعدًا أن نراه مستعمرًا مستوطنًا وزعيمًا سياسيًا إسرائيليًا، هذا إذا نجا من الحرب.
خامسًا: الفلسطينيون من الناحية الأخلاقية، ومن حيث المبدأ، لا يمكن أن يدعموا أي احتلال وأي ظلم لأي شعب، لا سيما أنهم عانوا من التشريد والعدوان والحروب والمذابح والتهجير والتطهير العرقي والاحتلال، وممارسة كل أنواع الظلم من الحركة الصهيونية، برعاية الدول الاستعمارية، وخصوصًا الولايات المتحدة التي تدعم إسرائيل بكل أنواع الدعم، وإذا اختلفت معها بأي شيء فمن زاوية رؤيتها للمصلحة الإسرائيلية؛ أي تكون ملكية أكثر من الملك. ولكن سيادة الدول لا تعطيها حق تهديد أمن بلدان أخرى، ومستقبلها، وسيادتها، تحت مسمى سيادة الدول، فلا سيادة لدولة تقوم على المساس بسيادة الدول الأخرى، وزيلينسكي وصل إلى حد التهديد بالحصول على السلاح النووي.
سادسًا: نحن نعيش في عالم، في مرحلة أفول، تتزعمه أميركا، وهو لا يعرف إلا لغة المصلحة والقوة التي توظف لخدمتها، فالقوي يأكل الضعيف، وأما الأخلاق والمبادئ والقانون والعدالة فلا تستخدم إلا ضد الضعيف. وفي عصر السيطرة الأحادية الأميركية على العالم، انتهكت الإدارات الأميركية كل المبادئ وقواعد السلم الأهلي، وسيادة البلدان في مختلف بقاع العالم. فعلى سبيل المثال، قامت واشنطن بـ 72 اعتداءً وغزوًا واحتلالًا؛ أي أكثر مما قامت به كافة الدول الأخرى في العالم، وكان نصيب العرب وافرًا من هذه الاعتداءات، فيما جرى من عدوان واحتلال للعراق، ولجزء من سوريا، وليبيا، فليس مقبولًا ممن ارتكب كل هذه الفظائع أن يتحدث عن السلام والأمن وسيادة الدول. ولم تسمح واشنطن باستمرار نصب الصواريخ السوفييتية في كوبا، وهددت بحرب عالمية، ولا تسمح لأي دولة جارة لها أو حتى بعيدة عنها بالقيام بما يمكن أن تعتبره تهديدًا لأمنها.
وقد لاحظ الجميع كيف أن بايدن متحمّسٌ للحرب، ولعدم التوصل إلى اتفاق عبر المفاوضات، أكثر من زيلينسكي نفسه، على أمل أن تقع روسيا في المستنقع الأوكراني، في الوقت الذي لا تريد فيه واشنطن أن تتدخل مباشرة في الحرب، فهي تقاتل حتى آخر جندي أوكراني، وعرضت على زيلينسكي اللجوء إليها منذ اليوم الأول، فما يهمها إبقاء الاستنزاف لروسيا، وإضعافها، وإبعادها عن أوروبا، ومنع أو تأخير تقدم الصين لقيادة العالم.
سابعًا: هناك مثل مشهور، ما معناه إذا تقاتل الكبار فما على الصغار سوى النأي بالنفس، حتى لا يذهبوا دعوسة بين الرجلين. فإذا كانت الصين التي تقترب من إعلان التحالف مع روسيا اكتفت بدعمها في رفض انضمام أوكرانيا إلى الناتو، ورفضت العقوبات على روسيا، كما رفضت وصف ما يجري بالغزو الروسي، لم تعترف بانفصال إقليمي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا، وامتنعت، ولم ترفض، مشروع القرار في مجلس الأمن لإدانة روسيا، وحذت حذوها الهند والإمارات العربية، فلماذا مطلوب من الآخرين دعمًا كليًا لروسيا؟
هذا لا يعني أن على فلسطين أن تختار إما أن تدعم أصدقاءها مهما عملوا، لأن في ذلك تحقيقًا للمصلحة، ولا أن تتخلى عنهم وفاء للمبادئ والأخلاق. فروسيا صديقة لفلسطين، وكانت صديقة وحليفة لهم زمن الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة (رغم الأخطاء التي ارتكبت في الماضي والحاضر، وأكبرها الاعتراف السوفييتي السريع بإسرائيل)، إلى حد يمكن الجزم بأنّ انهيار الاتحاد السوفييتي وحدوث السيطرة الانفرادية الأميركية على العالم، أحد أهم الأسباب التي تفسر التدهور الخطير في الوضع الفلسطيني منذ اتفاق أوسلو وحتى الآن. وهناك أمل إذا توفرت الشروط الذاتية الفلسطينية أن تنهض فلسطين وتأخذ مكانها في خارطة العالم الجديد، الذي ستأخذ الصين، وبدرجة أقل روسيا، مكانة متقدمة فيه. وبكل أسف لا يوجد ما يكفي من جهود لتحقيق هذه الشروط.
وأخيرًا، إذا نظرنا إلى المواقف الفلسطينية سنجد عدم اتخاذ موقف رسمي حتى الآن، وهذا أفضل من موقف خاطئ، وتوزعت المواقف الفلسطينية غير الرسمية بين آراء عدة:
الأول، يرى أن عدو عدوي صديقي، لذا يجب أن تكون فلسطين مع روسيا ظالمة أو مظلومة، وتراهن على العالم الجديد تعددي الأقطاب المتصوّر أنه آتي حتمًا وبسرعة.
الثاني، يقول إن طرفي الحرب كفار أو ضدنا، وبالتالي "فخار يكسر بعضه"، حيث تطغى الشماتة على أي شيء آخر، وهناك أمل لدى البعض من أصحاب هذا الرأي أن تتحقق النبوءة الشهيرة بزوال إسرائيل هذا العام، على خلفية إمكانية اتساع الحرب وقيام روسيا بالوقوف ضد إسرائيل، خصوصًا منعها من قصف سوريا لدعمها المعسكر المعادي لها، ولا يضع هذا الرأي في حسابه أن الفترة الانتقالية التي يمر بها العالم قد تطول، إضافة إلى أنّ تراجع أميركا وتقدم الصين لا يسيران في خط مستقيم دائمًا إلى الأمام، بل تشهد تقدمًا وتراجعًا لهذا الفريق أو ذاك، كما أن الموقف الإسرائيلي بدعم المعسكر الغربي تمّ تحت الضغط الأميركي، وتحاول إسرائيل أن تحتفظ بهامش يحافظ على علاقتها مع روسيا.
الثالث، يرى أصحابه أن مكان فلسطين إلى جانب أوكرانيا وأصدقائها، لأنهم المعسكر الأقوى الذي لن يغفر لمن لم يقف معه، ويتغطى أصحاب هذا الموقف بسيادة الدول واستقلالها، غاضين النظر عن كل الجرائم التي ترتكبها أميركا وربيبتها إسرائيل، متجاهلين أن أميركا خذلت وستخذل كل حلفائها، ولا يهمها سوى مصلحتها.
الرابع، موقف الحياد، ويمكن أن يكون حيادًا كليًا أو حيادًا إيجابيًا يميل إلى جانب الأصدقاء، على أساس عدم صحة المساواة بين المعسكرين.
في كل الأحوال، إن التأييد لروسيا أو معارضة ما تقوم به لا يقدم ولا يؤخر، ففلسطين أصغر وأضعف من أن توثر، خصوصًا في ظل الانقسام والهوان والتوهان والتدهور في الوضع الفلسطيني، وسنكون إذا استمرت أحوالنا على ما هي عليه من الخاسرين، سواء إذا انتصرت روسيا أو انهزمت، أو إذا لم تهزم ولم تنتصر، فكل الاحتمالات واردة، ولا أحد قادر على التيقّن من نتيجة هذه الحرب في هذه المرحلة. ولكن الأمر الأكيد أن نتيجة الحرب ستساهم في رسم ملامح العالم الجديد.