الكاتب:
د.سعيد شاهين
تعود الأسباب الرئيسية للعملية العسكرية التي تشنها روسيا على أوكرانيا الى المد القومي المتطرف، وبروز نزعة معادية لكل ما هو روسي، في مجتمع يشكل الروس ثلثه، الى جانب تحول أوكرانيا تدريجيا بفعل الدعم الغربي لها الى كيان معادٍ لروسيا، وخصوصاً بعد ما سمي بالثورة البرتقالية حينها، التي اطاحت بالرئيس الأوكراني المنتخب يانكوفيتش ووصفتها روسيا بالانقلاب على حليفها في العام 2014.
وقعت في ميدان العاصمة كييف أعمال عنف واسعة النطاق ضد كل من يفكر بالابقاء على روسيا كحليف استراتيجي لكييف، وقد تبعتها اعمال وحشية وتصفيات لمواطنين روس واوكرانيين آمنو بالعيش المشترك، وقد زصل بهم الحد الى حظر اللغة الروسية من قبل المتطرفين القوميين( بينديري) راح ضحيتها الآلاف دون أي ملاحقة قانونية.
تبعها انفصال لأقليم دونباس، الذي يضم غالبية روسية وهو من أغنى الاقاليم بالثروات الطبيعية والزراعية، وحوصر على اثر هذه الأحداث لمدة ثمانية سنوات، وظل يقصف ليل نهار من قبل المتشددين الذين أمسكوا بمفاصل الجيش والدولة بمساعدة الغرب الديمقراطي!! .
أعطى ذلك الحق لروسيا بالتدخل في الاقليمين دونتسك ولوجانسك (دونباس) لحماية السكان الروس والاوكرانيين القاطنين في الاقليم لدعمهم انسانيا واقتصاديا وعسكرياً.
في أعقاب هذه الاحداث جرت مفاوضات في بيلاروسيا توجت بتوقيع اتفاق مينسك، الذي حضرته أوكرانيا والاتحاد الروسي والجمهوريتين الانفصاليتين ومنظمة الأمن والتعاون الاوروبي، لكن أوكرانيا نكثت به.
تطورت الاحداث بتدخل الغرب ودعم القوميين بشكل مريب اقلق موسكو، التي ظلت تناشد كييف الى ضرورة تطبيق الاتفاق وعدم الانجراف نحو الغرب، لكن موسكو شعرت حينها بالنوايا الغربية المرتبطة بالدعم المتواصل والرامية الى تحويل أوكرانيا الى قاعدة للناتو.
أقدمت روسيا حينها وبعد تيقنها أن الغرب وضع يده على الساحل الشرقي للبحر الاسود من أوكرانيا بهدف وضع اليد على القرم وانشاء قاعدة بحرية هناك مقابل اضخم اسطول بحري روسي في مدينة سيفاستوبل بالجزيرة، مما حذا روسيا على استعادة القرم بعد استفتاء لمواطنيه وغالبيتهم من الروس.
طالبت موسكو على مدار الثمانية سنوات الماضية الغرب وكييف بعدم تمدد حلف الاطلسي الى حدود روسيا مع اوكرانيا ، لكنها لم تجد اذان صاغية، وضمت غالبية دول أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق اليها وادخلتها في حلف الاطلسي في ظروف كانت صعبة لروسيا، وتنكرت لاتفاق بوخرست الذي يلزم الغرب بعدم التوسع شرقا ونصب بطاريات صواريخ تهدد امن الاتحاد الروسي.
محاولات كييف للانضمام الى الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو بعد تولي زيلينسكي زمام الحكم ومن حولة ادارة قومية متطرفة تسميها موسكو بالفاشية الجديدة. كل هذه العوامل وغيرها تقف خلف اتخاذ بوتين قرار بشأن شن العملية العسكرية الحالية، التي تهدف الى تغيير النظام وتحويله الى موال لموسكو أو محايد بعدم الدخول الى الناتو واحترام حقوق السكان الروس القاطنين في أوكرانيا السياسية والثقافية ونزع سلاحها والاعتراف بالقرم انها اراض روسية.
منذ انطلاق العملية كانت الاوامر قد صدرت بعدم قصف المدن أو الثكنات العسكرية، بل الاهداف العسكرية والحساسة مثل مراكز السيطرة والتحكم والاتصالات ومحطات الطاقة النووية التي تشكل خطورة على أمن روسيا وجنودها .
الدعم الغربي حال دون تحقيق هذه الأهداف بشكل خاطف وسريع وتغيير النظام، هذا دفع الى اتساع رقعة التضامن الغربي مع اوكرانيا واصرارهم على منع روسيا من تحقيق اهدافها واضعافها للحيلولة دون بروز نظام دولي متعدد الأقطاب، والابقاء على الولايات المتحدة لاعب رئيس ووحيد على الساحة الدولية.
شعر بوتين بنية الغرب تحويل أوكرانيا الى قاعدة متقدمة لها، وتنكرها لاتفاقات وقعتها مسبقاً مع الولايات المتحدة تنص على عدم توسيع حلف الاطلسي الى الشرق والحد من انتشار الصواريخ المتوسطة المدى التي في حال نصبها على الاراضي الاوكرانية ستهدد موسكو بشكل مباشر.
جهود الغرب تهدف الى تطويق روسيا وتضييق الخناق عليها من خلال العقوبات التي نشهدها وتزويد أوكرانيا بالسلاح الفتاك وسعي زيلينسكي الى امتلاك قنبلة نووية.
هذا التصعيد من قبل الغرب والدعم الغير محدود لأوكرانيا وتشجيعها على مواجهة روسيا سيفاقم الوضع الراهن ويدفع به الى حافة الهاوية، وخاصة بعد رفع جهوزية الردع والرد النووي الى حالتة القصوى.
اصرار الغرب على كسر شوكة موسكو من خلال دعم حكومة زيلينسكي، واصرار موسكو على تحقيق اهدافها سيؤدي الى تداعيات امنية دولية وانسانية واقتصادية خطيرة لم يشهدها العالم منذ 1945.
تصاعد قوة روسيا الاقتصادية والعسكرية وتحكم روسيا بامدادات الطاقة الى اوروبا أغضب الولايات المتحدة، وجعلها تضغط على المانيا بوقف خط نورد ستريم2 الذي سينقل الغاز الى المانيا مما يساعد في الحد من نفوذ روسيا ويقلل من اعتماد اوروبا عليها في امدادات الغاز.
بضغط من الولايات المتحدة باتت اوروبا وخاصة بريطانيا مطوة في يد امريكا تلوح بها في وجه طموحات بوتين الساعية الى تحويل العالم الى عالم متعدد الاقطاب بتحالفه مع القوة الاقتصادية والعسكرية الصاعدة الصين.
السلوك العدواني للغرب بقيادة الولايات المتحدة سيدفع بوتين على الاصرار أكثر على تحقيق اهدافه من خلف هذه العملية مهما كلف الأمر، ورغم وجود معارضة داخلية تراهن عليها امريكا والغرب قد تقلب موازين القوا لصالحها بسب العقوبات الاقتصادية الاستثنائية التي تفرضها على روسيا. لكن القيصر لن يتوانى عن استخدام كل ما لديه من قوة لمواجهة هذه الاجراءات المسعورة، من خلال الرد عليها بعقوبات مماثلة قد تربك حسابات الغرب، وخاصة في حل قطع امدادات الطاقة عنها، والتي تعتمد عليها بنسبة40٪، ولا يمكن للجزائر وقطر والنرويج وحتى ايران سد احتياجات اوروبا من الغاز الا بنسبة لا تتجاوز 15٪، تدخل أوروبا بشكل مباشر سيفقد القيصر اتزانه وسيدفعه الى استخدام مخالبه ،كما قال في بداية العملية محذرا من العواقب الوخيمة.
* أستاذ إعلام جامعة الخليل