الكاتب:
جمال زقوت
عندما تقرر إجراء الانتخابات التشريعية قبل حوالي العام، تحولت البلد إلى ورشة عمل وخلية نحل انخرطت فيها كافة القوى السياسية والاجتماعية والنشطاء والشخصيات الوطنية والاجتماعية من كل حدبٍ وصوب لتشكيل قوائمها الانتخابية، رغم عدم يقينية جزءًا لا يُستهان به من جدية السير بها حتى النهاية. كان ذلك تعبيرًا واضحًا عن رغبة الأغلبية الساحقة في التغيير بالمعنى الواسع للكلمة، وقد تفاءَل الناس في حينها، سيّما أهل قطاع غزة، أن تلك الانتخابات ستكون فرصة للخروج من كارثة الانقسام والعودة بهم لالتئام شطريّ الوطن واستعادة وحدته، وانتعشت الآمال بنهاية الحصار، وإعادة الحياة لمؤسسة تشريعية فاعلة وحكومة موحدة تعالجان معًا ملفات الانقسام، وترفعان الغُبن والتمييز الذي كان قد ألمَّ بأهل القطاع المحاصرين من الاحتلال، والذين يعانون في نفس الوقت ظلم حكّامه، كما ويعاقبون من قيادتهم وحكومتهم. كما نشط الناس في القدس التي تحولت لعنوان تلك الانتخابات، والتي سرعان ما انتهى بها المطاف لتُستخدم كمقصلة لوأدها، فتبخرّت أحلام الناس وجهودهم الذين عبّروا لدرجة غير مسبوقة عن الرغبة بالمشاركة السياسية التي حُرموا منها لما يزيد عن خمسة عشر عامًا؛ ذلك عندما أعلن الرئيس أنه بسبب القدس، التي لا يسمح الاحتلال بمشاركتها تصويتًا وترشيحًا، قد تم تأجيل الانتخابات إلى إشعار آخر، وحتى يوافق المحتل على إجرائها في المدينة المقدسة.
كان هذا القرار بمثابة إعدام للديمقراطية، الرديف الطبيعي للنضال الوطني في الحالة الفلسطينية التي ترزح تحت الاحتلال، وتسليم هذا الحق الديمقراطي الشعبي كرهينة في يد اسرائيل، رغم كونها حق طبيعي للشعب الفلسطيني ومكوّن جوهري لممارسة الحق في تقرير المصير، والذي يتضمن حق الشعب في اختيار قيادته وممثليه. نعم؛ لقد تم التسليم بهذا الحق لإسرائيل، والتي طالما سعت، ومنذ تجربة انتخابات البلديات عام 1976، إلى وأدها ومحاولة وأد الكيانية التي تنتجها، وهي، أي حكومة الاحتلال، أكثر من يعلم مدى الترابط بين الديمقراطية والنهوض الوطني في مواجهة المحتل. تلك المعادلة التي بات ترابطها منذ تأسيس السلطة الفلسطينية شرطًا لإنجاز التحرر الوطني؛ فبدون بناء ديمقراطي جدي يؤسس لمشاركة شعبية في إدارة الحكم، سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إنجاز مهمة التحرر الوطني.
إلا أن هبّة أيّار التي انفجرت في القدس ضد سياسة الابارتهايد بحق أهالي حيّ الشيخ جرّاح، وغيرها من أحياء القدس ومقدّساتها، قد وحّدت الشعب خلف هذه الهبّة، لتؤكد المخزون الكفاحي للشعب الفلسطيني وقدرته على تحدّي سياسة القهر والتمييز ومصادرة الديمقراطية، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والشعبية على حدٍ سواء.
بتغييب الديمقراطية والتمسك بحالة الانقسام انفجر الوضع الشعبي، سيما أن تغييب هذه الديمقراطية ترافق في أول امتحان له باغتيال حرية التعبير التي تجسدت في مقتل نزار بنات، وما ترافق معها من واقع جديد عنوانه الإطاحة بالمبدأ الأهم لمرحلة التحرر الوطني، وهو الالتفاف الشعبي حول الحركة الوطنية ونظامها السياسي، الذي تعمقت عزلته وانفضّ الناس من حوله، وبات الهمّ الوحيد لأصحاب السلطة هو تعزيز قبضة الموالين على مفاصل الحكم، وتحول دورها إلى "تحميل الجمايل" بما تقدمه من واجبات وكأنها منّة، أو كأن الشعب الذي هو مصدر الشرعية مجرد ضيف ثقيل على أصحاب الحكم في "بقايا الوطن" والمتحكّمين في مصالح واحتياجات العباد.
في هذا المناخ جاء الإعلان عن إجراء الانتخابات البلدية، حيث رفضت حركة حماس إجرائها في قطاع غزة، الأمر الذي ذهب بالانقسام خطوة جديدة نحو الانفصال، كما كانت تجزئة هذه الانتخابات على مرحلتين عاملًا إضافيًا لتفتيت مضمونها السياسي، فانشغلت بمرحلتها الأولى العائلية، وفكّكت في مرحلتها الثانية بقايا الفصائل واستبدلتها بالعشائرية السياسية التي للأسف ومنذ زمن تنمو كالطحالب الضارة في جوف المياه الآسنة من حطام الحركة الوطنية التي استبدلت الطابع الإئتلافي لوحدتها الوطنية مجسدة في منظمة التحرير الفلسطينية، بنظام أبوي منقسم تقوده مجموعات مصالح الموالين للحكم على ضفتيّ الانقسام.
هذا الواقع هو الذي يفسر قلة اكتراث الناس بالانتخابات البلدية، باعتبار أنه دون إصلاح وتغيير مضمون النظام السياسي الذي يتحكم بطبيعة ودور مسؤوليات الحكم المحلي، فستظل البلديات المنتخبة قاصرة عن إمكانية إحداث ما يرجوه الناس من تغيير في طبيعة مضمون دور هيئات الحكم المحلي، التي وبدلًا من أن تكون واحدة من البنى الاجتماعية لتعزيز القدرة على الصمود، باتت امتدادًا للمحسوبية وتغييب العدالة في الخدمات اللتان تنخران مؤسسات السلطة يومًا بعد الآخر، من وجهة نظر الأغلبية الشعبية.
على الرغم من هذه الصورة القاتمة بين متطلبات التغيير السياسي والحاجة لتغيير مضمون البنى الاجتماعية، فمن الضروري أن ندرك بأن الخيارات القائمة تُحتّم على الجميع العمل لمنع الانزلاق نحو الأسوأ. فإذا كان الاحتلال يسعى لتفتيت ما تبقّى من الكيانات الجامعة، وربما استبدالها في لحظة ما بأُمَرَاء الكانتونات والمدن والحارات، فإن مواجهة هذا الاحتمال لا تمنحنا ترف الانزواء، والاستمرار في لعن الظلام، بقدر ما تفرض علينا تحويل معركة الانتخابات إلى محطة يُنظر إليها كواحدة من معارك البقاء التي تستدعي الانحياز للخيارات الوطنية التي تعلي صوتها من خلال بعض بؤر الأمل التي نجحت في بلورة كُتَل انتخابية تقدمية شابة ومنحازة للمرأة وعدالة التنمية والانفتاح والتعددية وحق الاختلاف، وتحمل في نفس الوقت الطاقة والحماس من أجل أن تظل البلديات، سيّما الكبيرة منها، سياجًا موحدًا في مواجهة مخططات بيروقراطية أصحاب المصالح، ومنعها من الانزلاق نحو ما قد يخطط له الاحتلال من استخدام تلك البلديات كمخلب لمزيد من تمزيق الكيانية الوطنية الجامعة. وبالتأكيد، فإنه لا يمكن فصل متطلبات الصمود من خلال عدالة الخدمات التي تقدمها البلديات، وبين مهمات مواجهة مخططات الاحتلال في معركة مترابطة بقدر ترابط مهام التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، الأمر الذي يستوجب مجموعة من الأولويات والتي بمضمونها تقدم نموذجًا لإعادة بناء الحركة الوطنية والجماهيرية على حدٍّ سواء من القاعدة إلى القمة وصولًا لبناء كتلة شعبية عريضة قادرة على مراكمة التحولات، بالاستناد للمشاركة الشبابية والنسوية والفئات العريضة المهمّشة في المخيمات والأحياء الفقيرة بالمدن وتلك المهددة بالمصادرة والاستيطان في الأرياف، وفرض ضرورة العودة للمسار الديمقراطي وحق الشعب في اختيار قيادته القادرة على ترجمة تلك الأولويات، وفي مقدمتها إرساء العدالة الاجتماعية واجتثاث الفساد وترسيخ قواعد المساءلة والمحاسبة وإعادة الاعتبار للطابع الائتلافي لمؤسسات الحركة الوطنية ونظامها السياسي في المنظمة والسلطة على حدٍ سواء، والتي بمضمونها تضع حدًا، ليس فقط للانقسام، بل والتفرد والإقصاء والمحاصصة والتعدي على الحريات، وتعيد الاعتبار للتعددية السياسية والفكرية في إطار جامع للوحدة الوطنية يصون حرية الرأي والإبداع، ولا ينزلق لمشانق الإحباط واليأس التي يحاول الحانقون تعليقها لمن يختلف مع رأيهم أو ذائقتهم الفنية أو الابداعية، والتي يعكسها الجدل المتوتر حول فيلم "صالون هدى"؛ فالخلاف وتباين الرأي حق وظاهرة صحية، بينما استسهال التخوين فهي سمة اليائسين، وعلينا أن نتمسك بدورنا كصنّاع للأمل والحياة والتغيير والإبداع.