السبت: 28/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

بين حروف الحرب الروسية الأوكرانية

نشر بتاريخ: 19/03/2022 ( آخر تحديث: 19/03/2022 الساعة: 10:58 )

الكاتب:

دوسلدورف/أحمد سليمان العمري

سقطت بغداد ودُمّرت سوريا والحروب الأهلية الطاحنة ما زالت تودي بحياة الآلاف بين أطفال ونساء وشيوخ وعُزّل، وجنود يقتل الأخ أخيه في اليمن وليبيا، وفلسطين ما زالت نجلاءها تنزف، غير أنّ هذه المآسي الإنسانية في المنطقة لم تكن غير عناوين صحف، بينما الغزو الروسي على أوكرانيا روّج الغرب لمعاناته حتى فتحت الدول حدودها دون وثائق سفر، وجعلت من روسيا خطرا يهدد العالم.

معايير القوى والضعف والتمييز العنصري، حتى بين أبناء النحلة الواحدة فضحتها المشاعر الإنسانية جرّاء الحرب بجلاء.

التصريحات الأمريكية والأوروبية حول العقوبات الإقتصادية على روسيا تتزايد لحظياً، فبعد فرض مجموعة الدول السبع الكبرى عقوبات غير مسبوقة على روسيا طالت البنك المركزي إلى جانب إجراءات عقابية واسعة النطاق ضد كبار المسؤولين ورجال الأعمال في البلاد، بما في ذلك الرئيس الروسي «»فلاديمير بوتين ووزير خارجيته «سيرجي لافروف»، والتي بدأت مع إعلان البنك الدولي إيقاف جميع مشاريعه في روسيا، واستبعاد موسكو من نظام «سويفت» المالي العالمي، حيث تُمثّل جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك شبكة للتراسل لضمان المدفوعات الدولية، ليسجّل إنخفاض «الروبل» الروسي منذ الغزو أدنى مستوى له على الإطلاق.

فصل مجموعة مختارة من البنوك الروسية عن نظام المدفوعات الدولية يوجّه ضربة اقتصادية موجعة لروسيا بدون شك؛ لكنّه سيُلحق ضرراً كبيراً بالمؤسّسات الغربية والبنوك في ذات الآن.

يقول أستاذ الاقتصاد الأمريكي «مايكل هدسون»: «إن الولايات المتحدة تُدمّر ذاتياً، ويشير إلى أنّ سياستها دفعت روسيا والصين إلى نسج علاقات أوثق، وأنّ الدبلوماسيين الأمريكيين اختاروا إنهاء «الدولرة» الدولية بأنفسهم، بينما يساعدون روسيا في بناء وسائلها الخاصّة للإنتاج الزراعي والصناعي بالاعتماد على الذات».

تزامن تصريح «هدسون» مع تقارير تتحدّث عن تحرّك العملات المشفّرة وخاصّة «بيتكوين» جنباً إلى جنب مع الأصول الخطرة قبل أسبوع حسب التقريب، وهي الآن الأصل الذي يعتمد عليه الروس والأوكرانيون لإخراج أموالهم من النظام التقليدي الذي أصبح معاديا للغاية.

علّ البتكوين هي الطريقة الفعّالة التي تُمكّن موسكو من الالتفاف على العقوبات الغربية، بظل ارتفاع حجم تداوله اليومي منذ الغزو الروسي بنحو 260% حتى يوم 5 مارس/آذار.

ليست ‎روسيا وحدها التي تعاني العقوبات الاقتصادية، إنّما الاتحاد الأوروبي والغرب برمّته أيضاً، وتحديداً ألمانيا؛ فقد وصل اليوم سعر البنزين إلى 2.30 يورو والديزل 2.31، ليكون الأعلى في تاريخ ألمانيا، إضافة إلى خلو المحال التجارية من الزيت النباتي لأنّ رفع الأسعار شملته ليرتفع بأكثر من 100% أيضاً، ناهيك عن فقدان الدقيق من السوق ومخاوف ارتفاع أسعاره، ولن يقف التسارع عند هذا الحدّ.

أمّا إرتفاع أسعار الغاز التي بدأت مع قرارات العقوبات فلها حصّة الأسد، هذا لأنّ نسبة استهلاك ألمانيا من الغاز الروسي تصل إلى 50% وأوروبياً 40%، ففي حال انقطاع الإمداد الروسي، ستحتاج الدولة إلى بدائل بكميات كبيرة في شتاء هذا العام، كون ألمانيا ليس لديها محطات للغاز المسال - إذا أقرّته كبديل - فضلاً عن تكلفته العالية لتسييله وتبريده بدرجة كبيرة (ناقص 162 درجة) ونقله في السفن، الأمر الذي يتطلّب استخدام الطّاقة، وكتبعة بديهية الإضرار بالمناخ.

‏واخيراً الشركة النفطية الروسية «روس نفط» الفرع الألماني تعرّضت لقرصنة إلكترونية وسُرقت بياناتها. وتعد الشركة واحدة من إحدى منشآت البنية التحتية الحيوية للدولة.

ورطة الغاز الألمانية

تُخطّط الحكومة الفيدرالية بالفعل لبناء محطات مناسبة في الموانئ المحلية، ولكنّ كلّ هذه البدائل أصبحت أعباء أضافية على الدولة ترتّب عليها تناقض في القرارت بين التبعية لواشنطن وحاجتها الماسّة للغاز، فقد أوقفت العمل بـ «نورد ستريم 2» وفي نفس الوقت صرّح «أولاف شولتس» بعدم استغناء ألمانيا عن الغاز الروسي.

التعتيم الإعلامي الغربي حول الضغوطات الاقتصادية التي تعانيها دول الاتحاد تشبه تلك التي تمارسها أنظمتنا المهترئة. لأول مرّة تتشابه المؤسّسة الإعلامية الغربية بتغطية الحرب، وكأنها نسخ ولصق، علاوة على إقصاء كلّ من يغرّد خارج السرب.

فقد وصلت التبعة الأوروبية وتحديداً الألمانية للإدارة الأمريكية بحذف مقابلة للسياسي المخضرم، المستشار الألماني الأسبق «غيرهارد شرودر» من كلّ القنوات والمواقع لأنّه خالف النصّ الغربي الواحد تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، وعرّى الإدارة الأمريكية ودميتها الأوروبية، ولم تكتف الحكومة بذلك، إنّما يعمل الحزب الديمقراطي الذي كان يرأسه في الماضي على فصله.

الغريب في الأمر أنّ أوكرانيا استثنت «شولتس» وطلبت يوم 10 مارس/آذار من «شرودر» التدخّل، بحكم العلاقة الودّية مع بوتين. وبحسب صحيفة «بوليتكو» الأمريكية فإن شرورد الآن في موسكو دون إطلاع الحكومة الألمانية.

على ما يبدو أنّ حالة اليأس الأوكرانية دفعت بهم لتجاوز الحكومات واللجوء إلى أشخاص، وخاصّة بعد فشل محادثات أنطاليا يوم 10 مارس/آذار، وهي الأولى على هذا المستوى منذ بدء الغزو في 24 شباط/فبراير، حيث جمعت وزير الخارجية الروسي «سيرجي لافروف» ونظيره الأوكراني «دميترو كوليبا»، ولقد أبدى اللقاء مدى بعد الجانبين عن السلام، بالإضافة إلى فشل جولات المحادثات بين وفدي موسكو وكييف التي عُقدت مؤخّراً في بيلاروسيا.

لا أستبعد نجاح شرودر، كون بوتين وحده في روسيا صاحب القرار.

لقد أعرب السياسي الألماني «كلاوس فون دوهناني» وهو من الحزب الحاكم بكلمات صدمت السياسيين الألمان عن قلقه حيال تطور ألمانيا في حلف الناتو، إذ قال: «سنكون منطقة إمداد وسيؤدّي هذا إلى نهاية ألمانيا. علينا أخذ الدروس من الحرب الباردة. أمريكا تحاول إقحام ألمانيا وفرنسا ومعهما دول الإتحاد في مواجهة مع روسيا، محاولة منها إضعاف الأخيرة».

صورة فقط عن الإعلام الغربي الحالي.

لقد وصل ما تمخّض عن العقوبات الروسية إعلان الجهات الألمانية المسؤولة عن احتمالية انقطاع الكهرباء جرّاء قرار عدم استيراد الغاز الروسي، بدءاً من تحقيق الحلم الأمريكي بإيقاف نورد ستريم 2، وإيقافه واحد من أهم الأجندة الأمريكية، بذريعة استخدام بوتين الغاز الروسي كأداة ضغط على أوروبا، لإستبداله بالأمريكي الطبيعي المسال عال التكلفة، الذي تروّج له الإدارة الأمريكية منذ فترة كحلّ دائم.

لقد أتت الحرب الروسية الأوكرانية مواتية لسياسة أمريكا بما يتعلّق بإيقاف خط أنابيب الغاز، الذي بدأ العمل به في عام 2011م لمضاعفة السعة السنوية لتصل إلى 110 مليار متر مكعب. فقد قدّم «جو بايدن» تصريحات حول الحديث مع المستشارة الألمانية السابقة «أنجيلا ميركل» لإيقافه، واللافت للنظر أنّه بعد لقائه بها والحديث إليها لم يتطرّق لطرح مشروعه

تحوّل السياسة الألمانية

بإيقاف نورد ستريم 2، بينما في عهد الحكومة الجديدة أولاف شولتس وبظل حملة المقاطعات الهائلة ضد روسيا أتى تعليق العمل به كخطوة صعُب على المسشار الجديد رفضها، بالإضافة إلى ضعف الدور الأوروبي أمام التنفّذ الأمريكي في أوروبا؛ بدت واضحة ومُخجلة بغياب «ميركل».

حقيقة أن المستشارة السابقة أستطاعت وضع سياسة ألمانية وأوروبية مستقلّة نوعا ما عن التدخّل الأمريكي.

كنت بصفة شخصية متفائلاً بشخص أولاف شولتس، غير أن الحرب وضعته بسرعة على المِحك ليظهر دوره التابع للإدارة الأمريكية بأكثر من التوقعات.

مصطلح «تحوّل السياسة» من التركيز على القضايا الإقتصادية لصالح الإعتبارات الأمنية والعسكرية ما يزال في ألمانيا ضعيفا للغاية رغم ما تنفّذه الحكومة الجديدة في السياسة الأمنية؛ توصف بثورة غير مسبوقة.

لسنوات كانت ترفض ‎ألمانيا تحقيق هدف الناتو البالغ ٢%، لتقرّ قبل أيام تزويد الجيش بـ ١٠٠ مليار يورو قبل نهاية العام الحالي، حيث طالب وزير المالية «كرستيان ليندنر» بزيادة الإنفاق العسكري، إذ قال: «سنوفر للجيش الألماني كل ما يحتاجه من أجل مهمته». والذي قابله رفض رئيس كتلة الحزب الحاكم «رولف موتسنيش»؛ وصف الدعم الهائل بالخطوة غير الحكيمة معتبراً زيادة التسلّح ليس حلاً للأزمة، إضافة إلى رفضه تأسيس الترسانة النووية في فرنسا كردع نووي أوروبي، والذي تسبّب بدوره بإنقسام داخل الائتلاف الحاكم.

‏ألمانيا تسمح، وبكلّ سذاجة بأنّ تكون المموّل للمشاريع العسكرية الأمريكية.

لا محال أنّ فرض العقوبات غير مسبوقة النظير على روسيا واستبعاد بعض البنوك والبيلاروسية معها من شبكة الاتصالات المصرفية السريعة «سويفت» خلق حالة قلق كبيرة ومخاوف من عدم اليقين، لدرجة أن أحداً لم يستطع الأسبوع الماضي سحب أموالاً من الصراف الآلي في موسكو.

ولكن أوروبا في الجانب الآخر تشاطر روسيا هذه العزلة.

من السهل على الولايات المتحدة تصعيد العقوبات الاقتصادية على روسيا كيفما شاءت، فحجم الإستثمار والتبادل التجاري بين البلدين لا يؤثّر كثيراً على أمريكا، لكنّ المصالح الاقتصادية بين دول الإتحاد وروسيا كبيرة، بحيث تنشُط فيها 6000 شركة ألمانية، كما قُدّرت الوظائف المرتبطة بالعلاقات الألمانية الروسية اقتصادياً بنحو 400 ألف وظيفة.

لذلك فإنّ خسارة دول الإتحاد الأوروبي جرّاء العقوبات أكبر من خسارة حليفها الأمريكي بكثير، وتحديداً قطاع الطاقة والنفط، وقد بدأ تاثيرهما يظهر سلبا منذ الأزمة.

السؤال الذي بات الآن يؤرّق العالم والغرب بصورة خاصّة، هو ما يدور برأس بوتين. «روديجر فون فريتش»، سفير ألمانيا السابق في موسكو يجيب عليه دون أن يطمئن أوكرانيا وحلفائها: «إننا نتعامل مع هواجس رجل عجوز وفقدانه للواقع. فلاديمير بوتين لديه حلم روسي عظيم وصدمة أبدية. هذه الحرب حربه وحده. المشكلة هي أنّ الأخير ألغى منذ فترة طويلة جميع الإجراءات التصحيحية الممكنة لأفعاله؛ فقد السيطرة، وهو الآن وحده، وهذا يجعل الأمر بغاية الصعوبة لتقييمه. نحن نتعامل مع أفعال رجل واحد ولا نعرف إلى أين يقودنا».