الكاتب: جهاد حرب
تظهر نظرية الشرعية السياسية لدى ماكس فيبر "عالم الاجتماع الألماني" ثلاثة أنماط من الشرعية لسلطات الحكم في الدولة أي تمتع هذه السلطة بقدر من "القبول والرضا" لدى المحكومين "المواطنين". وتحاكي كل واحدة من هذه الشرعيات مستوى المجتمع وتطور الحقل السياسي فيه؛ فالنمط الأول يتعلق بالشرعية التقليدية التي تقوم على عوامل النسب أو السلالة والدين وهي متوارثة. أما النمط الثانية الشرعية الكاريزمية فتقوم على فكرة الزعيم الملهم الذي تنقاد إليه جموع المواطنين؛ حيث تنشأ هذه الكاريزما من بطولات سياسية أو عسكرية أو وطنية أو مكانة دينية، ولما يتمتع به من هيبة وصدق تكرسه عند الجمهور باعتباره القدوة والملاذ والمرجع.
فيما الشرعية العقلانية "النمط الثالث" فتقوم على أساس سيادة القانون كإطار مرجعي لممارسة السلطة العامة، وحكم المؤسسات، والتوزيع العادل لسلطة الدولة "صاحبة القوة القهرية المشروعة" بما يجسم مبدأها الأساسي "الشعب مصدر السلطة وصاحب السيادة الذي تشتق منه روح القوانين"، أي ما يطلق عليه اليوم النظام الديمقراطي الذي يقوم على المشاركة السياسية للمواطنين في إدارة سلطة الدولة، من طريق الاقتراع الحر والتداول على السلطة بوصفه حق للمواطنين.
نظرياً، أي من ناحية المنطلقات الفكرية، ينطبق النمط الثالث "الشرعية العقلانية لدى ماكس فيبر" على النظام السياسي للدولة الحديثة حيث تنص عادة وثيقة الاستقلال والدستور "القانون الأساسي لدى الفلسطينيين" بما لا يدع مجالا للشك بأن السلطة القهرية للدولة مملوكة للشعب وهو مصدر شرعيتها وصحبها الأصيل يفوضها بالانتخاب لكيانات وأشخاص ملزمين بالعودة إليه بشكل دوري من ناحية، وتخدم المواطنين من ناحية ثانية، وتعمل لصالح الشعب "صاحب المصلحة العامة ذاتها" من ناحية ثالثة، وتشتق روح القوانين لصالحه من ناحية رابعة للحصول على القبول والرضا كُنْهُ الشرعية وأساسها، وبدونها تتحول السلطة الحاكمة لاستخدام القوة القهرية للدولة الـ power كنظام استبدادي وتسلطي لقمع المواطنين وإهدار قيم الدولة المتضمنة في وثيقة الاستقلال والدستور.
عملياً تتركز أدوات التغيير الداخلي في النظم السياسية الحديثة لسلطة الحكم أي الأشخاص والكيانات السياسية المتحكمة بالسلطة القهرية للدولة إلى أربع آليات. تتمثل الآلية الأولى بالانتخابات؛ أي التداول السلمي للسلطة التي تحترم الآجال الزمنية لإجرائها وفقا للأحكام القانونية المنصوص عليها في الدستور وقوانين الانتخابات المعمول بها في الدولة، وهي الآلية الأرقى والأقل تكلفة مادية على الدولة والشعب، وتتيح المجال لعملية التغيير وفقا لإرادة الشعب ومصالحه كما تراها الأغلبية الشعبية، وتحترم السلطة الحاكمة الممسكة بالقوة القهرية للدولة باحترام سيادة القانون، وكذلك هي الآلية الأكثر قبولا للمجتمع الدولي ومنظماته السياسية.
أما الآلية الثانية؛ فإنها تشير إلى الانقلابات العسكرية أي سيطرة الجيش أو جزء منه على سلطة الحكم والإطاحة بالأشخاص والكيانات السياسية الحاكمة بالقوة العسكرية التي يتحكم بها باعتبارها إحدى أدوات القوة القهرية للدولة كوظيفة لفرض سيادة القانون وصون حقوق المواطنين وحماية الدولة من الأخطار الخارجية، وليس للتحكم بسلطة الحكم أو الاستيلاء على السلطة القهرية للدولة بكليتها. هذه الآلية أكثر سهولة لكنها الأكثر تكلفة لاحتمالية وقوع ضحايا وإثارة القلاقل، وأقلها شرعية من وجهة نظر المواطنين، وعدم احترام إرادة الشعب وسيادة القانون، كما أنها باتت غير مقبولة في المجتمع الدولي ومنظماته السياسية التي تفرض في أغلب الأحيان العزلة على الدولة وتحرمها من المشاركة في المجتمع الدولي.
أما الآلية الثالثة فتتمثل بالانقلاب السياسي بتحالف بين مراكز القوة والنفوذ في مؤسسات الدولة للإطاحة برئيس الدولة باستخدام قواعد دستورية أحيانا، وغالبا ما يكون باتفاق بين الحكومة والبرلمان وقوى الأمن المهيمنة عبر فرض مرحلة انتقالية طويلة نسبياً لتكريس مصالح أفراد أو جماعات دون اعتبار لقواعد التداول السلمي أو إرادة المواطنين بهدف السيطرة على مقدرات الدولة أو استمرار سياسات داخلية أو خارجية محددة.
فيما آلية التغيير الرابعة تتمثل بالثورة بنوعيها المسلحة أو الشعبية "ربيع الدولة" على سلطة الحكم الممسكة بالقهوة القهرية للدولة، النوع الأول "الثورة المسلحة" باتت تكلفته عالية وهو غير مرغوب لعدم اعتباره تداولا سلميا للحكم، وإمكانية القيام به لم يعد ممكناً عملياً مع تطور القدرات التقنية لسلطات الحكم. فيما النوع الثاني الثورة الشعبية أو الانتفاضة أو التجمعات الشعبية السلمية الواسعة التي تطالب بإحداث التغيير عبر الاحتكام إلى الشارع وفرض إرادة الشعب بأداة حضارية؛ فهذه الآلية قد تأخذ وقتاً طويلاً لتنضج، وتحتاج إلى طليعة ثورية تتحمل الضغوط والتضحية لتحويل التراكم الكمي إلى تحول نوعي كنقطة تحول اجتماعي تاريخي للوصول للحظة الانفجار الفارقة.
وهي آلية تحمل قواعد "النظرية الصفرية" التي تشير إلى أن مقدار مكسب طرف ما بمقدار الخسارة التي يتحملها الطرف الآخر؛ أي أنها مُكلفة؛ ارتقاء ضحايا في حال رد عنيف من قبل السلطة الممسكة بالحكم "القوة القهرية"، وقد يتبع ذلك مرحلة من الاضطراب السياسي والقلاقل الأمنية اللذان يؤثران على الوضع الاقتصادي الكلي وعلى الأسر المعيشية. النوع الأول لم يعد يتفهمه المجتمع الدولي أما النوع الثاني قد يتفهمه المجتمع الدولي لكنه يحتاج إلى سرعة في التدبر الداخلي، وفي استعادة الشرعية القائمة على الانتخابات للحصول على القبول الدولي وعودة الدولة إلى مكانتها في المجتمع الدولي.