السبت: 09/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الانتخابات المحلية: استقطاب ثنائي بعباءة المستقلين

نشر بتاريخ: 29/03/2022 ( آخر تحديث: 29/03/2022 الساعة: 10:24 )

الكاتب: هاني المصري

سألني صحافي نبيه حول مشاركتي في التصويت في الانتخابات المحلية ودعوتي للمشاركة فيها، على الرغم من تحفّظي عليها عند إقرارها؛ كونها جاءت للتغطية على حرمان الشعب من الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني التي كانت مقررة في العام الماضي، وأنها تخالف قانون الانتخابات المحلية عندما جُزّئت إلى مرحلتين، وتأتي لإعطاء شرعية ومصداقية لسلطة لم يعد لديها منهما شيئًا يذكر.

أجبت أنني لا أزال عند موقفي المتحفظ، ولكن إذا كان لا يجد رواجًا كبيرًا وغير قادر على فرض الانتخابات الشاملة وحل الرزمة الشاملة، التي من وجهة نظري هي طريق الخلاص الوطني، فلا بد من المشاركة في الانتخابات المحلية المتاحة، لا سيما في ظل الاندفاع الشعبي نحو المشاركة فيها، كما ظهر في نسبة الاقتراع التي وصلت إلى 54%، وهي نفس النسبة تقريبًا في انتخابات العامين 2012 و2017، ولكنها أقل بحوالي 20% من الانتخابات المحلية التي جرت في العامين 2004 و2005. وهذا يعود إلى أن الانتخابات حتى البلدية تحت الاحتلال يؤثر فيها تأثيرًا كبيرًا، ويتضاعف تأثيره من خلال توظيف الانقسام لصالحه، كما يظهر من خلال اعتقال المرشحين، وتهديدهم بالاعتقال لمنعهم من الترشح، واعتقال الفائزين غير المرغوب فيهم، وتعطيل عمل المجالس البلدية التي تفوز فيها المعارضة، كما حصل مع اعتقال إسلام الطويل وعبد الكريم فراح الفائزين في الانتخابات في البيرة والخليل، وهو سيؤثر في اختيار رئيس البلدية كون القانون يفترض حضور جميع الفائزين بالمجلس للتصويت، فلا يوجد توكيل ولا إنابة، مع أن الاخلاق والوطنية تفترض من القوائم المنافسة ألا تستفيد من إجراءات الاحتلال، وأن يتم تعديل القانون بما يكفل تعطيل أغراض الاحتلال من الاعتقال.

ازدواجية "حماس": مشاركة في الضفة ومنع في غزة

وهناك زيادة في المشاركة ناتجة عن حالة من الازدواج السياسي مارسته حركة حماس؛ حيث شاركت في انتخابات مجالس الضفة، وإن بشكل غير مباشر، عبر قوائم محسوبة عليها، وهذا يرفع نسبة المشاركة من جهة، ولكن لا يعني أن "حماس" رمت بكل ثقلها فيها، بينما منعت إجراءها في قطاع غزة، وهذا يمكن تفسيره إما خشية من الخسارة، لا سيما أن "حماس" تعتمد منذ العام 2006 على فوزها في الانتخابات لتأكيد شعبيتها وشرعيتها وحقها في المشاركة، مع أن هذا إن صح فهو خطير، فالانتخابات لا تعقد فقط إذا كانت مضمونة النتائج، فضلًا عن أن خسارة مجالس بلدية يمكن أن يشجع على إنجاح عملها، وتغيير السياسات وأساليب العمل والأشخاص الفاسدين والذين لا يصلحون.

إذا كان البديل الذي تطرحه حول مسألة عامة، بما فيها حول الانتخابات الشاملة، باعتبارك فردًا أو فصيلًا غير جاهز، فلا يكون الحل بعزل نفسك عن الحركة والجماهير، وعن إمكانية التأثير مهما كان محدودًا، مع احتفاظك بوجهة نظرك بأن الوضع الفلسطيني مأزوم، ولا تعالجه انتخابات محلية، فهي مجرد مسكنات، والمشاركة فيها يجب ألّا تنسي أحدًا هذه الحقيقة، وأهمية إجراء الانتخابات العامة.

وهنا، يمكن استلهام التجارب الفلسطينية وغير الفلسطينية السابقة، فلينين، صاحب النظرية الثورية التغييرية الشاملة، دعا إلى المشاركة في البرلمان البرجوازي لتوظيفها في الدعاية لأهمية الثورة والتغيير الممكن ما دامت ساعة التغيير الثوري لم تدق بعد.

طبعًا، يجب ألا نغفل أيضا أن هناك مقاطعة واعية للانتخابات، لأسباب أيديولوجية أو دينية (حزب التحرير وجماعات سلفية أخرى)، أو سياسية، مثل عدم الإيمان بجدوى أي انتخابات تحت الاحتلال، ولا يجب التعامل معه سوى بالمقاومة حتى يدحر.

نسب تصويت منخفضة مقارنة بأول انتخابات محلية

وإذا انتقلنا إلى البحث في نسبة التصويت بشكل عام، فهي أقل بكثير مما جرى في انتخابات 2004 و2005، وأنها في المدن أقل بشكل ملموس من الأرياف، مع أن المدن مركز الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية ومقار قيادة الأحزاب والفصائل القوية والمؤسسات، والمفترض أن تكون المشاركة فيها أكبر. فعلى سبيل المثال، كانت نسبة المشاركة في انتخابات بلدية نابلس في العام 2005 حوالي 70%، ومن ثم انخفضت إلى 41% في العام 2012، وإلى 21% في العام 2017، عندما خاضت حركتا فتح وحماس الانتخابات في قائمة مشتركة، ومن ثم ارتفعت في هذه الانتخابات، ووصلت إلى 37%، جراء التنافس بين قائمتي "تحيا نابلس" المحسوبة على "فتح"، وقائمة "العزم" المحسوبة على "حماس".

هناك من يرجع العزوف عن المشاركة إلى قانون التمثيل النسبي الكامل، لأنه يفرض على الناخب انتخاب قائمة لا يرى أن كل من فيها يستحق صوته، فلا يصوّت، مع أنه يمكن أن يصوّت بورقة بيضاء كما فعل 1% من المقترعين، ويُرد على صاحب هذا الرأي بأن النظام الفردي يفتح الطريق واسعًا بصورة أكبر للأفراد والعائلة والعشائر على حساب المواطنة والأحزاب والبرامج، وهذا يُرد عليه بأن القوائم استُخدمت أيضًا لخدمة العائلات، بدليل أن القوائم التي فازت بالتزكية كبيرة، بواقع 23 قائمة في المرحلة الثانية، وهذه القوائم عائلية مع أنها ذات توقيع حزبي، إضافة إلى أن القوائم المستقلة مثّلت ثلثي عدد القوائم، بينما مثّلت القوائم الحزبية الثلث الباقي، والحل يكمن في تنمية الحياة السياسية، بحيث تكون هناك أحزاب وحركات فاعلة ومن دونها لن ينفع أي نظام انتخابي.

القيادات الكبيرة لم تترشح خشية الخسارة

وهذا كله لا يمكن تفسيره إلا بأن دور الأحزاب، وتحديدًا منذ توقيع اتفاق أوسلو يتراجع بشكل مضطرد؛ لدرجة وصلنا إلى وضع باتت القيادات الحزبية الكبيرة تحجم عن الترشح رغم أن المجالس المحلية، خصوصًا في البلديات الكبيرة، توفر مكانة معنوية ونفوذ كبيرين، ليس تعففًا، ولا من أجل إتاحة المجال لوجوه جديدة وشابة، بل لأنها حرقت، أو لا تجد ما تقدمه أو تخشى من الخسارة، أو كل ما تقدم.

وإذا أحصينا كم عضو مجلس ثوري ولجنة مركزية ومكتب سياسي خاض الانتخابات، سنجد أن العدد لا يكاد يذكر، وربما غير موجود لدى الفصيلين الكبيرين؛ لذا لاحظنا أن الأحزاب لبست عباءة المستقلين، خشية من الخسارة.

إضافة إلى ما سبق، وكما قال لي ديبلوماسي يعمل في فلسطين، ربما أن تدني نسبة التصويت في المدن يرجع إلى ارتفاع الوعي وإدراك المقيمين فيها أن إمكانية التغيير عبر الانتخابات المحلية محدودة، ليس لأسباب سياسية تتعلق بالخصوصية الفلسطينية من واقع أن فلسطين تحت الاحتلال والانقسام فقط، بل لأن البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعتمدة، العامة والمحلية، فشلت واصطدمت بالجدار ولم يتم تغييرها، ولا أمل في إحداث التغيير المطلوب والملحّ من دون رؤية جديدة وبرامج وطرق عمل ووجوه جديدة.

ما وراء عزوف الشباب؟

ولعل غياب التجديد والتغيير والإصلاح يفسر عزوف الشباب تحديدًا، فهم لا يثقون بالقائمين على المؤسسات على اختلافها، بما فيها البلديات، ولا يثقون بالأحزاب، ولا صبر لديهم حتى يحرز نضال طويل الأمد النتائج المتوخاة، فهم يعيشون في عصر السرعة، ويريدون تغييرًا سريعًا لا يجدونه في أنفسهم حتى الآن، وهنا عليهم تحمل المسؤولية لا أن يكتفوا بلعن كبار السن والقيادات المهيمنة، فلا أحد سيتنازل عن دوره ومكاسبه طواعية (لوحظ أن القوائم الشبابية والحراكية كانت قليلة، ومن شاركت فيها لم تأخذ أصواتًا تمكنها من الحصول على مقاعد). والمهم عدم وجود ثقة بأنّ من أوصلونا إلى الكارثة التي نعيشها ومن مصلحتهم بقاؤها قادرون على إحداث التغيير، وستكبر المشاركة عندما يوجد ويكبر الأمل بتغييرهم.

تُقدّم حلول انتقائية وجزئية لحل مشكلة عزوف الشباب، منها تقليل معدل أعمار المرشحين في القوائم، مع وضع معظم الشباب في أماكن متأخرة، (نسبة من هم أقل من 45 سنة في القوائم الانتخابية حوالي 59%، ونسبة النساء 27%)، وحتى لو كانوا في أماكن متقدمة، فالمهم ليس أن يكون هناك شباب أو نساء في القوائم، بل أن يحملوا قضاياهم، ويعبروا عنهم، وأن تكون القوائم والبرامج المطروحة قادرة على تلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم.

العرف المنحاز لأبناء البلد غير ديمقراطي

يضاف إلى ذلك ممارسات وعادات خاطئة ومريضة مثل أن البلديات تحديدًا في نظر البعض المؤثر خدماتها ومواقعها القيادية يجب أن تكون حكرًا على أبناء البلد الأصليين، وهذا عرف خطير لا يوجد في رام الله والبيرة فقط، بل في كافة المناطق، خصوصًا المدن، فهناك أحياء جديدة يقطنها الوافدون من مناطق أخرى لا تجد الرعاية والاهتمام من المجالس البلدية المتعاقبة، مثل حي أم الشرايط في مدينة البيرة على سبيل المثال لا الحصر. فمن العجيب أن شخصًا قادمًا من بلاد بعيدة ومن جنسيات أخرى يمكن أن يصبح بعد حصوله على الجنسية هو أو ابنه أو حفيده رئيسًا في الولايات المتحدة أو فرنسا، وأن شخصًا فلسطينيًا أبًا عن جد لا يُقبل أن يكون رئيسًا لبلدية، رغم أنه مقيم فيها منذ عشرات السنين، لأنه ليس سليل عائلاتها العريقة.

هل الانتخابات سياسية أم لا؟ الجواب: نعم، هي سياسية، كونها تجري تحت الاحتلال وفي حمى المنافسة بين قطبي الانقسام، ولكن لا يمكن طمس طابعها المحلي، فالبلدية لها عمل خاص ومصادر دعم خاصة بها، وهي أحد أهم عوامل الصمود والوجود الفلسطيني إذا كانت بمستوى المسؤولية، وقدمت الخدمة الواجبة تجاه الوطن والمواطن، والحذر من تفريغها من طابعها الوطني والسياسي والحزبي، وجرها إلى براثن السلام الاقتصاد، فدورها خدمي ووطني معًا.

ماذا بعد: لم يحسم طرف الانتخابات لصالحه

هل ستفتح نتائج الانتخابات نافذة لعقد الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من قراءة نتائج الانتخابات قراءة موضوعية، فهي جاءت متوازنة، ولم يفز فيها فريق فوزًا ساحقًا، بدليل أن القوائم المحسوبة على "حماس" وحلفائها، خصوصًا الجبهة الشعبية، فازت في مدن وبلديات، مثل: الخليل، والبيرة، وطولكرم، والشيوخ، وبيت أمر، وبيرزيت، وبيت فوريك، وبيت ساحور، وقلقيلية بعد التحالفات التي جرت هناك ... إلخ. كما أن القوائم الفتحاوية والمحسوبة عليها فازت في: نابلس، ورام الله، وجنين، وطوباس، وأريحا، وسلفيت، ودورا، وإذنا، وسعير ... إلخ، وحتى في المجالس التي فاز فيها فريق لم يكن فوزه ساحقًا ، بل كانت هناك تعددية، فالفارق بين القوائم المحسوبة على فتح وحماس في كل من نابلس والخليل وطولكرم وقلقيلية مقعد إلى مقعدين فقط، وستفرض عليها ضرورة العمل المشترك إذا أريد لهذه المجالس النجاح.

الانتخابات تؤجج الانقسام بدلًا من إنهائه

شهدنا خلال الانتخابات اتهامات وتحريضًا متبادلًا ومحاولة إقصاء كل طرف للطرف الآخر. كما مارست السلطة انحيازًا واضحًا، خصوصًا الأجهزة الأمنية والإعلامية لقوائم "فتح"، وما حصل ليلة إعلان النتائج من إطلاق نار غزير في الهواء، وضد يافطات أو ممتلكات تعود لقوائم أخرى؛ ما يدل على أن الانتخابات في ظل الانقسام لا تكون بالضرورة مدخلًا لانهائه، بل لاستمراره، إن لم نقل لتعميقه.

تحالف "حماس" والشعبية طارئ أم مسار جديد

برزت خلال الانتخابات ظاهرة التحالف بين "حماس" والشعبية في عدد لا بأس به من القوائم ، وهذا جرس إنذار لـ"فتح"؛ لأن هذا التحالف إذا تعزز وتوسّع يمكن أن يقلب كل الحسابات والموازين، وهو نتيجة طبيعية لعملية التفرد والإقصاء الجارية في المنظمة والسلطة، ولعدم عقد الانتخابات العامة ولما جرى في المجلس المركزي الأخير، ولعدم نجاح اليسار أو غيره في التوحد وبلورة قطب ثالث، وكما يقال الطبيعة تكره الفراغ. فإذا سقط التحالف التقليدي في إطار المنظمة فستحل محله تحالفات جديدة.

كيف يمكن إحداث اختراق؟

عدم الفوز بأغلبية كبيرة لأي طرف، خصوصًا "فتح"، سيحدّ كثيرًا من إمكانية إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني الملغاة حتى إشعار آخر، وإمكانية إجراء الانتخابات المحلية في غزة، لأن السبب الأهم لإلغاء الانتخابات العام الماضي يرجع إلى عدم ضمان السلطة حصولها على الأغلبية، وهذا مستمر، مع العلم أن المنافسة في الانتخابات العامة ستكون ساخنة بشكل أكبر، لأن نتائجها توثر في النظام السياسي كله، والنتائج لا يمكن أن يضمنها أو يتحكم بها أحد، وهذا يعني أن الانتخابات ستبقى ممنوعة حتى إشعار آخر، إلا إذا تبلور تيار شعبي جارف وخارق لكل الأحزاب والتجمعات قادر على التغيير وإجراء الانتخابات، أو تشكّلت جبهة وطنية عريضة تطرح برنامجًا وطنيًا ديمقراطيًا واقعيًا يفتح الطريق لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وإجراء الانتخابات الشاملة، وتغيير السلطة، ولإنقاذ وإعادة بناء منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وتكون قولًا وفعلًا الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.