الكاتب:
بقلم د. وليد القططي
يوم الأرض هذا العام هو الأول بعد معركة "سيف القدس"، ويوم الأرض كرمزٍ للصراع مع الكيان الصهيوني بعد "سيف القدس" – المعركة والانتفاضة – يختلف عمّا قبله، فقد أحدثت المعركة والانتفاضة تحوّلاً في الصراع على الأرض عنوانه بداية النهاية للكيان الصهيوني، وما بين بداية مرحلة ما بعد "سيف القدس" ونهايتها، أو ما بين المقاومة والتحرير، تتضح ملامح الصراع بين مشروعي الاحتلال والتحرير، ولا سيما ونحن نعيش وهج النصر على وقع عمليات المقاومة الفدائية في فلسطين المحتلة، من جنوبيّها في بئر السبع، إلى شماليّها في الخضيرة، مروراً بوسطها في مستوطنة بني براك المُقامة على أرض قرية (الخيرية) المُهجّرة، ونحن تظلّلنا أرواح الشهداء الأربعة: محمد أبو القيعان، وخالد إغبارية، وأيمن إغبارية، وضياء حمارشة، لنحاول من خلال قراءة يوم الأرض بعد "سيف القدس"، واستحضار أرواح الشهداء، استشراف مستقبل الصراع في ظل تقدم مشروع المقاومة والتحرير نحو نهايته المؤكدة بتحقيق وعد الآخرة.
كان يوم الأرض حاضراً في معركة "سيف القدس"، فكلاهما – اليوم والمعركة – يختصر الصراع على الأرض، فلم تكن "سيف القدس" إلاَّ تجسيداً لهذا الصراع، كما كان يوم الأرض وكل أيام الصراع في فلسطين بين مشروعي الاحتلال والتحرير، فقد بادرت المقاومة الفلسطينية إلى المعركة دفاعاً عن المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جرّاح، فدافعت عن المسجد الأقصى كي لا يكون (هارهبيت)، وعن القدس كي لا تكون (أورشليم)، وعن فلسطين كي لا تكون (إسرائيل)، وهذا جوهر يوم الأرض الذي جاء تأكيداً لتمسّك الشعب الفلسطيني بأرضه والدفاع عنها، فالأرض عند الفلسطينيين هي دم الشهداء، وأنين الجرحى، ووجع الأسرى، وعرق الكادحين، ودمع المُعذّبين، وحنين اللاجئين، ورائحة الآباء، وروح الأجداد، وشموخ الثوار، ولذلك تُعتبر الأرض هي جوهر الصراع في الروايتين الصهيونية والفلسطينية.
الأرض في الرواية الصهيونية قامت على أكذوبة كبرى هي (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، فصوّرت الأرض الفلسطينية خالية من البشر والشجر، وإنْ وُجِدا فالبشر مجرد حشود بشرية غير منتجة، والشجر مجرد نباتات حرجية غير مثمرة، والمشروع الصهيوني جاء لإعمار (الأرض البور) بالمستوطنين (المُنتجين) والأشجار المثمرة، والأرض في الرواية المُزوّرة تكمل الثالوث المقدس (الأرض والشعب والإله)، وبعودة (الشعب اليهودي) إلى (أرض الميعاد) تحل روح الإله المُقدّسة في الشعب والأرض، فتضفي عليهما القداسة. ولذلك كانت الأرض هي جوهر المشروع الصهيوني الاستعماري بطبيعته الإحلالية الاستيطانية.
والأرض في الرواية الفلسطينية قامت على حقيقة واضحة تستند إلى الحق الفلسطيني الطبيعي والتاريخي والديني في الأرض الفلسطينية، وهي جوهر المشروع الوطني الفلسطيني منذ بداية المشروع الصهيوني والاحتلال البريطاني قبل النكبة بالحفاظ عليها، وبعد النكسة بمقاومة الاحتلال الصهيوني لتحريرها والعودة إليها، وعندما أُنشئت منظمة التحرير الفلسطينية بلورت مشروعها الوطني حول محور الأرض بالتحرير والعودة والاستقلال، وبعد النكسة بدأ التآكل في مشروع تحرير الأرض ليصل إلى فكرة تقاسم الأرض مع سارقها، وبعد اتفاقية أوسلو انتهت فكرة تقاسم الأرض إلى التعايش مع مُحتل الأرض، حتى جاءت معركة وانتفاضة "سيف القدس" لتُعيد تصويب البوصلة باتجاه مشروع المقاومة والتحرير.
جاءت "سيف القدس" في ذروة الضجيج حول الانتخابات لبناء نظام سياسي فلسطيني تحت سقف أوسلو يُكرّس حالة التعايش مع الاحتلال، ولكنها كانت أيضاً في ذروة الصراع في القدس على الأقصى والأرض، عندما كانت الجماهير الفلسطينية تتصدّى بصدورها العارية دفاعاً عن المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جرّاح، ففصلت معركة "سيف القدس" بين نهجي المقاومة والمساومة وطريقي التحرير والتعايش، فتوحّد الشعب الفلسطيني بقيادة المقاومة ومشروعها الوطني التحريري في كل فلسطين المحتلة عامي 1948م – 1967م وخارجها، في معركة "سيف القدس" بغزة، وانتفاضة "سيف القدس" في الضفة الغربية والأرض المحتلة عام النكبة، فكانت نقطة تحوّل في معارك المقاومة الفلسطينية واللبنانية، استفادت من مراكمة نقاط القوة للشعب والأمة، التي رافقت انسحاب الاحتلال من جنوبيّ لبنان عام 2000م، وقطاع غزة عام 2005م، وهزيمة تموز - حزيران 2006م، ومعارك غزة، وآخرها "سيف القدس" عام 2021م، فرسمت معالم مستقبل الصراع ما بين المقاومة كبداية والتحرير كنهاية.
في يوم الأرض الأول بعد "سيف القدس" لا يوجد في فلسطين سوى مشروعين: مشروع التعايش مع الاحتلال، تقوده أطلال مشروع وطني غادر ميدان الصراع مع الاحتلال، وخرج من مركز التاريخ الوطني، يبحث أبطاله المهزومون عن تحسين شروط الشراكة الأمنية والاقتصادية مع الاحتلال، وتحسين جودة حياة النخبة وذراريهم وأتباعهم تحت سيوف الاحتلال. ومشروع الاشتباك مع الاحتلال، يقوده عنفوان مشروع وطني لم يغادر ميدان الصراع، وبقي في قلب التاريخ الوطني، يُجسّد نهجه المنتصر مقاومة تسوء وجه الاحتلال، وتُراكم عوامل القوة على طريق تحرير الأرض وتحقيق وعد الآخرة. ولا يوجد سوى حلفين: حلف أورشليم أو محور المساومة والتطبيع، عنوانه الاستسلام للهيمنة الصهيوأميركية والخضوع للاستعمار الأميركي والكيان الصهيوني، وحلف القدس أو محور المقاومة والتحرير، عنوانه الثورة ضد الهيمنة الصهيوأميركية ومقاومة الاستعمار الأميركي والكيان الصهيوني.
في ضوء قراءة لهذين المشروعين والحلفين تتضح معالم مستقبل الصراع على الأرض بعد معركة وانتفاضة "سيف القدس"، المستقبل الذي يسير وفق سنن التاريخ ومعطيات الحاضر وبشائر وعد الآخرة، وهو صعود مشروع التحرير ومحور المقاومة ، وتقدم المشروع الوطني وحلف القدس، وهذا يعني حتمية تشكيل جبهة وطنية فلسطينية لتحرير فلسطين، تضم كل المؤمنين بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وتتجاوز قيود الأُطر والمُسمّيات الموجودة، مدعومة بمحور المقاومة الذي بوصلته القدس وفلسطين، ويضم كل الرافضين للاستعمار الصهيوأميركي على الوطن العربي والإسلامي، وتتجاوز حلف المساومة والتطبيع الموجود في الاتجاه المعاكس لمسار التاريخ والمستقبل السائر نحو وعد الآخرة.