الكاتب:
العميد: أحمد عيسى
دخلت إسرائيل العام 2022، وفقا للتقديرات السنوية الصادرة عن كل من الجيش ومعهد دراسات الأمن القومي (INSS) وغيره من المؤسسات المتخصصة بإصدار تقديرات إستراتيجية سنوية، وهي تواجه معضلة عالقة: تنبع من غياب إستراتيجية شاملة بعيدة المدى توظف قوة إسرائيل العسكرية والإقتصادية والتكنولوجية في مواجهة التحديات السياسية والأمنية والداخلية المتفاقمة التي تواجه الدولة منذ بداية الألفية الجديدة، لا سيما وأن هذه التحديات ذات طبيعة معقدة ومتداخلة وتتزايد بإطراد وتنطوي على تهديدات إستراتيجية للدولة.
وقد لخصت التقديرات هذه التهديدات بثلاثة مجموعات من التهديدات وقفت إيران ببرنامجها النووي والصاروخي وما تقدمه من دعم لمحور المقاومة في المنطقة على رأس هذه المجموعات، ثم جاء الفلسطينيون بقسميهم في المجموعة الثانية، وجاء الوضع الداخلي بما يشهده من إنقسامات إجتماعية وإثنية وتجاذبات سياسية وتراجع لمستوى الثقة بمؤسسات الدولة آخر هذه المجموعات.
وتكشف الأحداث والتطورات التي جرت خلال الربع الأول من هذا العام، ولا زالت جميعها تتفاعل في البيئة الإستراتيجية الإسرائيلية، أن ما تنطوي عليه هذه الأحداث من تحديات وتهديدات أكثر مما تنطوي عليه من فرص، لا سيما وأن هذه الأحداث قد تضمنت تحديات وتهديدات أنية ومتوقعة لم تكن التقديرات السنوية قد تطرقت إليها من قريب أو بعيد، الأمر الذي يعظم من تأثير هذه التهديدات على إسرائيل، خاصة إذا ما إستمرت مستويات اتخاذ القرارات لإستراتيجية تعمل دون إستراتيجية شاملة.
ومن حيث التحديات التي تضمنتها هذه الأحداث في البيئة الدولية وما تنطوي عليه هذه التحديات من تهديدات آنية ومتوقعة لإسرائيل، فقد تجلت في:
أولاً: تراجع إهتمام الحليف الإستراتيجي الأول لإسرائيل (أمريكا)، والحامي الأكبر لأمنها القومي سياسياً وعسكرياً خلال العقود السبعة الماضية، بالشرق الأوسط.
ثانياً: سرعة وصول مستوى المنافسة الروسية الأطلسية بزعامة واشنطن إلى درجة المواجهة الشاملة في أوكرانيا.
ثالثاً: تواتر المعلومات عن قرب عودة واشنطن للإتفاق النووي مع إيران التي صنفتها التقديرات السنوية المصدر الأول للتهديدات التي تهدد إسرائيل، بما في ذلك تزايد التسريبات الإعلامية عن إحتمالات رفع الحرس الثوري الإيراني من القائمة السوداء الأمريكية، الأمر الذي يشير إلى عدم نجاح إسرائيل في جسر الفجوة بينها وبين حلفائها في تشخيص ومعالجة التهديدات التي تواجه إسرائيل.
رابعاً: زيادة عدد المؤسسات الدولية التي تعتبر إسرائيل دولة فصل عنصري (أبارتهايد) وتدعو لمحاسبتها ومعاقبتها، حيث صدر في هذا الشأن، تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) في الأول من شهر شباط/فبراير الماضي، والمسودة الأولى للمحقق الخاص في قضايا حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتاريخ 21/3/ 2022.
أما من حيث التهديدات الآنية الجارية والمتوقعة التي تضمنتها الأحداث التي جرت وتجري في البيئة الإقليمية فقد تجلت في:
أولاً: إنتقال المواجهة العسكرية والسايبرانية الإيرانية الإسرائيلية من مستوى خفي وغير معلن، لمستوى علني، وفي هذا الشأن كانت يد إيران هي الأعلى خلال شهر مارس/أذار الماضي، حيث أعلنت إيران يوم الأحد الموافق 13/3/2022، أنها المسؤولة عن قصف مقر الموساد في أربيل بصواريخ باليستية دقيقة، رداً على مسؤولية هذا المقر وفقا لمصادر إيرانية عن تدمير منشأة إيرانية في محافظة كارمنشاه بتاريخ 12/2/2022، ثم تنفيذ هجمات سيبرانية إيرانية في اليوم التالي لتدمير موقع الموساد في شمال العراق على عدة مؤسسات حكومية إسرائيلية، كان أبرزها إختراق الكبيوتر الشخصي لرئيس جهاز الموساد دافييد برنيع.
اللافت هنا أن الردود الإيرانية العلنية كان لها أثرها المباشر على معدل الهجمات الإسرائيلية على أهداف إيرانية في كل من سوريا والعراق وداخل إيران، إذ لم تنفذ إسرائيل أي هجوم على أهداف إيرانية في هذه المناطق منذ تاريخ 13/3/ حتى تاريخ كتابة هذه المقالة، أي على مدى أكثر من 20 يوم، في حين أن وتيرة الهجمات الإسرائيلية على أهداف إيرانية وسورية في الفترة الممتدة من تاريخ 24/شباط/ 2022، (تاريخ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا) حتى تاريخ قصف مقر الموساد في أربيل، قد بلغ هجوم واحد كل أربعة أيام، مقابل هجوم واحد كل 11 يوم منذ بداية العام الجاري حتى تاريخ 24/2/2022.
ثانياً: إظهار جماعة أصار الله اليمنية لمستوى تطورها الصاروخي وسلاح المسيرات، إذ ألحقت ضرراً بالغاً في عدد من المنشآت النفطية السعودية والإماراتية خلال الشهر الماضي، الأمر الذي أشعل الضوء الأحمر لدى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من زيادة إحتمالات إستخدام هذا السلاح لضرب أهداف إسرائيلية إنطلاقا من اليمن، لا سيما وأن الشعب اليمني برمته لا يخفي عدائه لإسرائيل، ومناصرته لفلسطين وشعبها.
ومن حيث ما تضمنته أحداث البيئة الداخلية من تحديات وتهديدات لإسرائيل فقد تجلت في:
أولاً: ثبوت خطأ تقدير المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بأن العمل ضد إسرائيل ليس من أولويات تنظيم الدولة الإسلامية، إذ جاء إعلان المسؤولية عن عمليتي بئر السبع والخضيرة من قبل فلسطينيين من مواطني إسرائيل دليلاً على أن مؤيدي التنظيم من فلسطيني الداخل وعلى الرغم من محدودية عددهم، إلا أنهم تجاوزوا مرحلة التخطيط للعمل ضد إسرائيل ودخلوا مرحلة التنفيذ.
ثانياً: قلبت عمليتي يئر السبع والخضيرة السحر على الساحر فيما يتعلق بغض نظر الشرطة الإسرائيلية عن إنتشار الأسلحة والجريمة في المجتمع الفلسطيني داخل الدولة، إذ أظهرت العمليات أن قدرة المسلحين الفلسطينيين داخل الدولة على قطع الطرق وتشويش تحركات الجيش في أوقات الحرب على الحدود عالية جداً، لا سيما وأن محاولة الوقوف على المحركات الرئيسية لمنفذي هذه العمليات من قبل مسؤولين في جهاز الإستخبارات الإسرائيلية تظهر ان تفاعل فلسطيني الداخل مع أحداث هبة الكرامة كما يسميها أهل الداخل، أو معركة سيف القدس كما يسميها أهل غزة، أو هبة القدس كما يسميها أهل الضفة الغربية، كان تعبيراً صارخاً عن تمازج وإقتران المشاعر القومية والدينية في أوساط الأجيال الشابة داخل إسرائيل التي تعاني التهميش والإهمال والتمييز العنصري من قبل الحكومات المتعاقبة.
ثالثا: إنعدام الشعور بالأمن الشخصي من قبل الغالبية العظمى من المجتمع الإسرائيلي الذي تراجعت ثقته بالمؤسسة الأمنية، لا سيما بعد عملية مدينة بني براك، حيث جاءت دعوة رئيس الوزراء المواطنين إلى حمل سلاحهم في مواجهة الفلسطينيين تأكيداً على حاجة الدولة لمساعدة المواطنين لتوفير الأمن والدفاع عن الدولة.
وعلى ضوء كل ماتقدم فإسرائيل تدخل الربع الثاني من العام الجاري وهي في التقدير الإستراتيجي تعتبر دولة أبارتهايد، ولا تتخذ قراراتها وفقاً لإستراتيجية شاملة، وتواجه تهديدات قديمة غير قابلة للحل، وتواجه كذلك تهديدات أخرى جديدة غير متوقعة، وفيما يتراجع شعور المواطنين بالأمن، تستنجد الحكومة بهم لتوفير الأمن المفقود.