الكاتب: عيسى قراقع
استنفرت دولة الاحتلال الإسرائيلي، حالة طوارئ في كل ارجاء فلسطين التاريخية، زج المزيد من الجنود والوحدات في كل مدينة وقرية فلسطينية، الدعوات لحمل السلاح والتطوع في الأمن وحرس الحدود، الشرطة في كل مكان، حالة هلع وهوس نفسي، دولة مسلحة تسير في الشوارع في يوم الأرض 30 آذار، برميل بارود، حالة حرب، الأرض تنفجر وتنتفض، وتلقي بكل اثقالها فوق المحتلين الذين اغتصبوها، استيقظت الأرض في ميعادها، استيقظت الذاكرة، واذا كانت جنين غير آمنة لن تكون تل أبيب آمنة.
يوم الأرض ليس يوما واحدا أو حدثا ينتهي ويطمس في غمار احداث أخرى، الأرض الفلسطينية أصبحت هي المقاتل التاريخي الدائم التي تشدنا الى ما هو اكبر من تضامن، هي الانتباه العالي الذي يشبه الصرخة او الطلقة، وللأرض لهجات فلسطينية كنعانية عديدة، ذات رسائل كثيرة، الصراع لن يتقلص ما دام جوهره الأرض، اضلاع الأرض تحطم اسوار الكنتونات والاقفاص والمعازل وتمتد وتمتد، الأرض تنتشل الفضاء، تحطم الجدران، تلك الصخرة في جبل الخليل تحركها صخرة في أعالي الجليل.
تتجاوز الأرض خطوط الفصل العنصري، ذوقوا طعم الموت ايها المحتلون، استنشقوا رائحة الموت، ابكوا كثيرا، اختبأوا، اركضوا، هناك خوف، هناك من يقرع ابوابكم المحصنة، اسمعوا صوت الرصاص، جربوا ليلة واحدة من ليالي مخيم جنين، جربوا ساعة واحدة من ساعات الشيخ جراح بالقدس، احترقوا لتعرفوا وجع المكان، اعتذروا على ما صنعتموه بالشعب الفلسطيني، الأرض ليست عمياء، الأرض ترى، الأرض تحضر احيائها وامواتها وانهارها واحفادها واشجارها لانتفاضة الأرواح، هذه الأرض لا موت فيها، قولوا ذلك لأبن غوريون وللشيطان الحاقد ابن غفير.
بعد 46 عاما على ذكرى يوم الأرض تقذف الأرض في وجه المستعمرين صخورها وغبارها وترابها، تدعوا الجميع ان يحمل فأسه ويتبعها، احمل فأسك واتبعني، احمل أي شيء، لا تبقى جالسا او مندهشا، اهدم هذه المستوطنات، اهدم ما يسمى الخط الأخضر وامشي معي من النقب الى القدس الى حيفا واقلع السياج، احمل فأسك واتبعني، ازرع دمك وجسدك ولا تتركني تحت اسنان الجرافة وعربدة المستوطنين، احمل فأسك واخلع أبواب السجون، وقل للمستعمرين اننا عدنا من غياب، من صدمة تسمى السلام، ومن جثة احترقت فينا على حدود الانتظار.
المراسلون في القنوات الإسرائيلية المختلفة يغطون وقائع الحرب النفسية التي اصابت الإسرائيليين في يوم الأرض، مشاهد الرصاص المصبوب فوق سكان قطاع غزة وما يسمى عمود السحاب والجرف الصامد وحارس الاسوار، عمليات دموية ومجازر، هذه المشاهد ارتد صداها في قلب تل ابيب عندما تقيأت الأرض الفلسطينية كل اوجاعها فوق اكثر الاحتلالات وحشية وبربرية في العصر الحديث، هل هو الوعي بالذات؟ ام هو هذا التناسب الذي يقول عندما تقتل الاخرين توقع ان يأتي من يقتلك.
بعد 46 عاما من ذكرى يوم الأرض هناك استدارة، أجيال وجدت نفسها على الحائط، زمن الحياة توقف في احلامها وفي سجونها، اصبح يوم الأرض هو الهزة والرعشة، طعم الملح في الحلوق، نداء الطبيعة المذبوحة، منفى داخلي واغتراب، جيل يخرج من عمره المهدور، يعود ويكبر ويعتق روحه من اسر القيود.
75 عاما وحياة الفلسطيني في حرب، كم شهيدا وكم اسيرا وجريحا ومشردا؟ كم بيتا هدم وارضا نهبت وسلبت؟ الرماد لا ينطفئ، والريح اذا غضبت ترفع الأمواج ابعد من الشاطئ، الأرض تسلحنا، تنتصر لتاريخ فلسطين الممتد في اعماق التاريخ، فلسطين الصامدة الثابتة في الزمان والمكان، انه صوت التاريخ الفلسطيني، التاريخ لا يسكت، فلسطين الممتلئة حضارة وميراثا وفكرا وثقافة منذ العصر البرونزي قبل 3200 سنة قبل الميلاد حتى اليوم، فلسطين المعمورة بأهلها وسكانها وليست صحراء خالية او ارض الميعاد.
الماضي في يوم الأرض يضيء الحاضر، لهذا وصلنا من قلاعنا القديمة، نحاصركم الآن أيها الغزاة، نعبر أيام القيامة والقهر ونطاردكم في اللد والرملة وطبريا والناصرة وعكا وفي البحر حتى مطلع الفجر، لن تناموا في بيوتنا وحقولنا المقدسة، لن تكون لكم حياة فوق مقابرنا كي تتبادلوا خطب السلام.
لم تنته الحرب عام 1948، انفجرت القنبلة الديمغرافية الموقوتة، لم تعد موقوتة، طفح الكيل، الشهيد ضياء حمارشة يحاصركم، توفيق زياد يتحداكم وهو يصرخ في وجوهكم: هنا باقون على صدوركم كالجدار، خيمات اللجوء تحاصركم في الموت والغياب والسجن، انه بيان الأرض، لا مغفرة ولا نسيان، نحن في خط الدفاع الأخير، وهي اغنية واحدة، طلقة واحدة، جسد واحد، صلاة واحدة، صرخات المقهورين تحملها الأرض فوق الرفات.
بعد 46 عاما على ذكرى يوم الأرض، لم تستطيعوا أيها المحتلون من تطهيرنا وعيا وجغرافيا ومقاومة، اسـألوا سخنين وعرابة وبيتا ودير حنا وكفر قدوم ومسافر يطا، لا تصدقوا ان الشعب لا يخلق مرة أخرى من وسط الإبادة، رسائل كثيرة من الحجارة تتبادلها ام الفحم مع القدس والنقب وغزة والرملة، انه آذار يأتي من باطن الأرض وليس من مكتب او خطاب لغوي، انه الدم والحصى والقيد، اذار يقول: سنطردهم من هواء الجليل ومن ساحات القدس الشريف.
بعد 46 عاما على ذكرى يوم الأرض، سقطت كل الحصون والدفاعات العظمى، سقطت المستوطنات والطائرات والمدافع والابراج والحواجز، عالمكم أيها المحتلون الذي اقمتموه فوق عالمنا تهاوى، الأرض تحتفظ بأسمائها العربية وليست الأسماء التوراتية، انه البقاء في الاسم وفي الوجود وفي اللغة، ولن تنتظر الأرض من يفوضها او يصدر قرارا امميا بشأنها، لقد سقطت مفردات حقوق الانسان والقانون الدولي ولعبة الشرعية الدولية، سنخرج من خطابات الظلام، لقد نضجنا حتى طفح الموت والأرض الان تكسر هذا المغلق الغامض في الكلام.
يوم الأرض يقول للمحتلين الإسرائيليين لن تعيشوا اذا لم نعش نحن، سنملك وقتنا كله ليصحو فيكم القاتل ويرانا جيدا من بشر وحجر ونار، لن تجدوا مكانا لترتاحوا، لن تجدوا شارعا ليس فيه مظاهرة، لن تجدوا قطعة ارض ليس منقوشا عليها اسمنا، لن تجدوا بستانا يرحب بكم كشعب الله المختار، لن تجدوا صلاة تغفر لكم خطاياكم، لن تجدوا مقهورا لا ينتظركم ولو بعد الف عام، عندنا من المعجزات ما يكفي لقلب الحسابات وبناء دولة فوق النشيد.
يوم الأرض يقول للإسرائيليين المحتلين: الإرهاب المنظم ينتج عندكم بكل السوائل المادية والفكرية، إرهاب الدولة الرسمي، إرهاب المنظمات الاستيطانية المتطرفة، احتلال الآخرين هو اعلى اشكال الإرهاب، ماذا تتوقعون من شعب يستشهد من ابناءه اكثر من 30 شهيدا منذ بداية هذا العام 2022؟ اعدامات واقتحامات وهدم منازل واعتقالات وجرحى ومصابين، انه جنون الإرهاب الصهيوني اليومي، قد يصمت الضحايا مؤقتا، يدفنون امواتهم، لكن عندما تهدأ الشهقات يخرجون من مرايا الموت في الفجر العظيم.
يوم الأرض يحرر حياتنا من قيود الإلغاء والفناء، يحررنا من الأوهام، فلا سلام الا مع الأرض الكاملة المتكاملة سيادة وحياة، الأرض تلطم بنيرانها ودماء شهدائها وميراثها التاريخي كل من تواطأ او ساوم او تنازل او طبع مع اعدائها، الأرض تحرر المستقبل، فمن أراد ان يكون ابن هذا المستقبل فليقل ما قاله شاعرنا الكبير محمود درويش:
انا الأرض
يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها
احرثوا جسدي
أيها الذاهبون إلى صخرة القدس
مروا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمروا
أنا الأرض في جسد لن تمروا
أنا الأرض في صحوها لن تمروا
لن تمروا.