الجمعة: 17/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

الجامعات وسوق العمل وعلاقة "القائد والمقود".

نشر بتاريخ: 14/04/2022 ( آخر تحديث: 14/04/2022 الساعة: 13:46 )

الكاتب: صخر سالم المحاريق

تقع الجامعات في جدلية دائمة عندما تقوم ببناء استراتيجياتها وعلاقتها بمجتمعاتها عامة وسوق العمل خاصة، وهذه الجدلية تحمل وجهتي نظر؛ الأولى: والتي تجعل من الجامعات قائداً لسوق العمل وموجهاً لاحتياجاته ومُتطلباته، والثانية: والتي تجعل من الجامعات مقودة لسوق العمل ومرتهنة لتقلباته المُستمرة، فما هي شكل العلاقة الصحيحة التي يجب أن تربط الجامعات بمجتمعاتها عامة وسوق العمل خاصة لتحقيق أهدافها التعليمية والتنموية على حد سواء؟

ينقسم عزيزي القارئ التعليم الجامعي في مُستوياته للتأهيل إلى قسمين رئيسيين هُما: التعليم الأكاديمي (الجامعي)، والتعليم المهني والتقني (الفني)، إضافة إلى ثلاثة أدوار رئيسية يجب أن تلعبها المؤسسات التعليمية في مُجتمعاتها عبر أهدافها المرسومة وهي أولاً: الإنتاج المعرفي والبحثي، ثانياً: توفير كوادر بشرية مُتخصصة ومؤهلة نظرياً وتطبيقياً، ثالثاً: الخدمة المُجتمعية، ويجب عدم الخلط في ذلك عند بناء استراتيجياتها وأهدافها.

من هذا المُنطلق نستطيع بناء شكل العلاقة الفاعلة بين المؤسسات التعليمية من جهة والمُجتمع من جهة أخرى وخاصة العلاقة مع سوق العمل، حيث تُمثل المؤسسات التعليمية فيها جانب العرض من خلال (مُخرجات عملية التعليم وأهدافها) سابقة الذكر، ويمثل سوق العمل فيها جانب الطلب أي (المُتطلبات والحاجات التشغيلية والتقنية) كما يلي:

أولاً: يظهر شكل العلاقة الأولى والتي تكون فيها الجامعات عاملاً مُستقلاً يقود سوق العمل ويوجه دفته في مُستوى التعليم الأكاديمي(الجامعي) في مراحله المُختلفة البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه؛ بحيث يبرز دور المؤسسة التعليمية تحت مسمى جامعة أو معهد بحثي من خلال حجم الإنتاج المعرفي والبحث العلمي الناتج عنها، ومدى مُساهمته في عملية التنمية المُجتمعية الشاملة، إضافة إلى دورها في تشخيص المُشكلات التي يواجها سوق العمل وابتكار الحلول الناجعة لعلاجها، ناهيك عن الدور الرئيس المنوط بها وهو تأهيل الأفراد وتكوينهم كقادة ومؤثرين في مُجتمعاتهم في هذه المراحل والمُستويات التعليمية الثلاث.

ثانياً: وأما شكل العلاقة الثانية والتي تكون فيها الجامعات عاملاً تابعاً لسوق العمل ومقودةً له فتظهر في مُستوى التعليم المهني والتقني (الفني) مُتوسط الأجل (الدبلوم المتوسط) وقصير الأجل (الدورات التدريبية)؛ وفيها يبرز دور المؤسسة التعليمية تحت مسمى كُلية أو معهد تقني في تأهيل الأفراد وتزويدهم بمهارات "فنية وتقنية" للالتحاق بمهنة مُعينة في سوق العمل، بناءً على دراسات ميدانية استقصائية وفق منهجية علمية مُشتركة بين الطرفين للوفاء بمتطلبات سوق العمل المُتقلبة والمتغيرة باستمرار.

ولو قُمنا بتشخيص واقع تلك العلاقة ومدى فعاليتها وصحتها في مُجتمعاتنا العربية، سنجدُ بأنها يشوبها العديد من المُعيقات في شكلها الأول والثاني؛ فالمؤسسات التعليمية في بلادنا العربية تخلط بين المُستويات التعليمية (الأكاديمية والمهنية) سابقة الذكر إضافة إلى الأدوار المنوطة بها وفقها، وبالتالي تشوه شكل وكفاءة تلك العلاقة وفعاليتها مُجتمعياً، فنجدها تقتصر فقط على دور وعملية تأهيل الأفراد وتزويدهم بالمعارف والمهارات "النظرية والعملية" للالتحاق بسوق العمل فحسب في كلا المُستويينْ التعليميينْ، بحيث تتجسد تلك العلاقة من طرف واحد فقط وهو المؤسسة التعليمية ذاتها، دون مُشاركة وإشراك فاعل لسوق العمل ومُكونات المُجتمع في تطوير تلك "المعارف والمهارات" والحاجة الفعلية لها عند بناء الخُطط الدراسية والتعديل عليها، فنجدها تارةً تبنى اختصاصاتها بشكل بعيد كل البُعد عن واقع سوق العمل الفعلي وظروفه المُختلفة عبر خطط دراسية قد تكون في أحيان كثيرة "Overqualified"؛ أي تحتوي على مُتطلبات فيها زيادة لا داعي لها، أو قد تكون يشوبها الكثير من النقص والتنافر في أحيان أخرى بين المهارات المُكتسبة وحاجات سوق العمل الفعلية، وإن خيرَ دليلٍ ومؤشرٍ على ذلك هو الارتفاع الطردي الحاصل في نسب البطالة رُغم ارتفاع نسب التعليم والتعلم، وكذلك اختلاط الوصف والمواصفات الوظيفية لشاغلي الوظائف المختلفة فمثلاً نجد المُهندس يقوم بدور الفني والعكس صحيح رغم الفرق الواضح في مهام وواجبات كُلٍ مُنهما.

أضف إلى ذلك الضعف الحاصل والجلّي في مُخرجات الجامعات من الإنتاج المعرفي والبحث العلمي ومحدودية الميزانيات المرصودة لذلك، والذي حرم الجامعات العربية من دورها الفاعل في عملية التنمية الشاملة وقيادة مُجتمعاتها نحو التطور والنماء أُسوةً بالمجتمعات المُتقدمةِ والناميةِ الأخرى، وبالتالي فقدانها للدور القيادي في مُجتمعاتها والذي تُجسده العلاقة الأولى، وخير دليل على هذا المؤشر هو السباق العالمي في مواجهة جائحة كورونا ذلك الخطر الذي أَحْدَقَ بالمجتمعات كافة دون أي بصمة علمية وبحثية عربية فيه لإنتاج اللقاح المطلوب أو أي تجربة عربية ولو فاشلة نحوه.

وفي خُلاصة القول يجبُ علينا إعادة النظر في منظومة التعليم خاصتنا برمتها، وإلا فإننا نتجه باتجاه "تعليم نحو اللاتنمية" حقيقية في السنوات والعقود القادمة يزيد الطين بِلَّة، بحيث يجب مُراعاة خُصوصية كُل مُجتمع وحاجاته الفعلية على حدَّة دون استنساخٍ واستيرادٍ للتجارب المُتباينة في شكلها ومضمونها، من خلال إرساء وبناء قواعد لمنظومة تعليمية شاملة وتشاركية مُرتبطة بمكونات وقطاعات المُجتمع المعني واحتياجات كُل قطاع من تلك القطاعات عامٍ أو خاصٍ أو أهلي، ناهيك عن إعادة النظر في مُكونات العملية التعليمية وعناصرها كافة من (مُدرس، وطالب، وأسالب، وأدوات، وخطط، ومناهج تدريسية، وبيئات تعليمية)، تستند إلى تمايز فعلي في المُستويات التعليمية المذكورة سابقاً وعلاقتها بالأدوار والأهداف المنوطة بالمؤسسات التعليمية سابقة الذكر لإعادة تجسيد علاقة وازنة وسليمة بين المؤسسات التعليمية ومُجتمعاتها ومنها سوق العمل.