الكاتب:
د. مصطفى البرغوثي
أنهيت قبل قليل زيارة مستشفيات القدس لعيادة الجرحى الذين أصيبوا اليوم في المسجد الأقصى، ومهما كتبت من كلمات فلن أوفيهم حقهم الذي استحقوه بجدارة، بتفانيهم، و تضحياتهم، وتساميهم على آلامهم.
لكن ما رأيته و ما سمعته كان صاعقا، إذ تجاوزت وحشية جيش الاحتلال وجرائمه كل المعايير.
هوجم الجرحى حوالي الساعة الخامسة صباحا أثناء أدائهم لصلاة الفجر، واستمر الهجوم حتى الساعة العاشرة، وجميعهم أصيبوا بقنابل الصوت والضرب والقذائف المطاطية المعدنية التي يسمونها رصاص مطاطي، وهي لا تقل فتكا عن الرصاص الحي، لأنها أطلقت عن قصد على رؤوس و وجوه المصلين و من مسافات قريبة جدا، والنتيجة مائة واثنان خمسون إصابة عشرات منها خطيرة، وكان إطلاق الرصاص عشوائيا و انتقاميا بهدف إحداث أكبر أذى ممكن، وتراوحت أعمار المصابين بين أطفال عمرهم 15 عاما، إلى مسنين عمرهم 79 عاما.
طفلان في الخامسة عشرة من عمرهم أصيبوا مباشرة في الرأس ويعانون من ارتجاج في الدماغ وكسور في الجمجمة.
شيخ مسن عمره 79 عاما أصيب برصاصة حطمت فكه و شوهت الجزء الأيسر من وجهه و خضع لعملية جراحية و انفطر قلبي و أنا أراه بعد العملية يتنفس بمشقة .
و كم كان صعبا الحديث مع شاب آخر في العشرين من عمره أصابته الرصاصة في عينه بشكل مباشر، واضطر الأطباء لإستئصالها كي يحموا عينه الأخرى، وسيعيش بقية عمره فاقدا لعينه اليسرى.
خمسة شباب آخرين أصابهم رصاص الاحتلال إصابات بالغة في الرأس مما سبب نزيفا في الدماغ، وخضعوا لعمليات جراحية لمعالجة النزيف في الدماغ ولعلاج الكسورفي عظام جماجمهم.
طفل عمره ستة عشر عاما من كفر كنا أصيب بكسر في الجمجمة و نزيف في الدماغ وخضع لعملية جراحية والتقيت بوالده الذي كان القلق ينهشه خوفا على ولده الذي جاء مع أصدقاء له لأداء الصلاة في الأقصى على أمل العودة للإفطار في بيته.
شاب آخر أصيب برصاصة مباشرة في الوجه فكسرت أنفه و أسنانه و ألحقت أذى شديدا بوجهه.
إثنان من الشباب في عمر الورد أصيبا إصابة مباشرة في العنق، جروحهم منتفخة وأصر الأطباء على بقائهم في المستشفى خوفا من حدوث نزيف أو مضاعفات بسبب شدة الإصابات.
رجل فاضل في السابعة والثلاثين من عمره حاصره جنود الاحتلال وأطلقوا عليه من مسافة صفر رصاصتين في الصدر والفخذ، ثم بدأوا بركله في صدره ببساطيرهم.
مسن سوداني مهاجر جاء للصلاة في الأقصى، أصابه الجنود برصاصة في رأسه و أجريت له عملية لمعالجة نزيف في الدماغ، و كان ما زال فاقدا للوعي عندما رأيته.
و كان بين المصابين مسعفين حاولوا معالجة الجرحى، فأصبحوا هم جرحى، و رأى الجميع صور جنود الجيش ينكلون بأحدهم ويضربونه بأحذيتهم وهو ملقى جريحا على الأرض.
وعشرات آخرين أصيبوا بالرصاص في الأجزاء العلوية من جسمهم و عولجوا أو مازالوا يعالجون في المستشفيات وبعضهم كان ما زال في غرف العمليات أثناء زيارتنا.
لكن أكثر ما هز مشاعرنا الالتقاء بفلسطيني في الخامسة والستين من عمره جاء من الأردن كي يصلي في الحرم، ولم يحتمل قلبه مشاهد الضرب والتنكيل بالشباب الفلسطينيين، فأصيب بنوبة قلبية و عندما زرناه في قسم القلب كادت الدموع تطفر من عينيه و هو يحدثنا عما رأى.
في الأقصى التقت جراح فلسطينيين من القدس والضفة وأراضي 1948 والخارج لتجسد وحدة نضال الفلسطينيين التي لن يستطيع أحد أن يكسرها بعد اليوم، ولتجسد إرادة شعب يسموا على جراحه، ويؤكد تصميمه على الحياة، والبقاء في فلسطين، وحماية المسجد الأقصى والقدس من رجس المحتلين و الفاشيين الجدد.
لم أذكر أسماء هؤلاء الجرحى الأبطال احتراما لخصوصيتهم، وحماية لهم، ولكن تضحياتهم اليوم يجب أن تكرم من كل شعبنا الفلسطيني.