الكاتب: تحسين يقين
نسير، وأسير في ذهني متذكرا طفولتي عندما تعانقت عيناي بالقدس المدينة التي نزورها من خلال حافلة تضم قرويي غرب القدس.
زهدت بقصصي القصيرة التي أرويها لسارة التي راحت تستجلي المكان عبر حواسها، فرحة من داخلها، جعلتها كأنها ترقص لا تمشي وتتجول.
كانت تجربة سارة مختلفة في جهات الدخول، حيث كان علينا أولا أن نتجه الى غرب المدينة بمصاحبة الشاب الجميل حاتم الطحان دليلنا الى مستشفى الجذام سابقا وبيت خليل السكاكيني بناء على طلب الكاتب زياد خداش، وزوجتي الفنانة التشكيلية رانية العامودي وهناك اختبرت سارة مثلنا القدس الجديدة خارج البلدة القديمة التي تأسست بداية القرن العشرين، أي قبل قرن، وازدهرت في الثلاثينيات والأربعينيات، كما في البقعة والطالبية.
لا أدري، هي تجربة ومختبر أن نبدأ بالقدس الجديدة المحتلة عام 1948، شاهدت سارة الحداثة المدينية المتعددة من حيث الزمن، التي رأت فيها في جانب معاصر يحاكي أوروبا وأمريكا، كما ترى في التلفزيون والسوشيال ميديا، لكن ثمة ما عكّر مزاجها من حيث هوية هذه المعاصرة المعمارية، لكن مزاجها تحسّن قليلا حين دخلنا البقعة والطالبية والقطمون. فأثارها جدا أن القدس كانت متطورة بهذا الشكل قبل 73 عاما.
في مستشفى الجذام، رحت أتساءل عن هذا المرض أولا، الذي يؤدي الى تلف متزايد في الجلد والاعصاب والأطراف والعيون. تأسس المكان في القرن الثامن عشر، ثم صار مستشفى، وحين سقط غربي القدس، طرد الغزاة المرضى الفلسطينيين، مبقين على المرضى اليهود. المبنى الآن حديقة عامة في الخارج، أما قاعاته فهي موهوبة للفنانين والمثقفين. تحسسنا الغرف القديمة، التي كانت للنزلاء، فكم تحوي الغرف من حكايات ألم وأمل؟ وهدت في رؤية معارض معاصرة هناك، حيث كانت عيوني تستجلي مكونات الجبال التي نحن منها ونألفها، من الأشجار حتى الزوزو أو قرن الغزال.
"تمحرشت" بالحارس، الذي لم يرفع نظره تجاهنا لا دخولا ولا خروجا، فرد بوجه محايد:
- بم يمكنني أن أفيدك؟
- لا شيء!
هو يرانا فقط في جانب محدد، لكن لا يرانا نحن الفلسطينيون القادمون الى هنا كزائرين، حيث تمت برمجته ألا يرانا إلا عمالا أو ساطين على الأمن!
قصدت أن يجعله يرانا، من خلال التخاطب أولا بكلمات عربية ثم باللغة الإنجليزية، لأؤكد له هويتنا التي هو أصلا يعرفها، أردت التأثير على ما يراه، لكنه لا يرانا إلا عربا، أكنا من الضفة الغربية أو من فلسطين عام 1948. إنه ضحية نظرة استعلائية إحلالية. فأي مرض أسوأ من مرض الجذام هي مرض العنصرية! إنه يؤدي الى تلف متزايد في الجلد والاعصاب والأطراف والعيون..في القلب والعقول والشعور.
تهيبت ونحن نتجول مشيا للبحث عن بيت خليل السكاكيني في حي "القطمون" الراقي، حضر الزمان مرة واحدة، حضرت أزمنة خليل وكيف أنه حين ظن أنه سيستقر أخيرا في بيته الجديد، كان عليه أن يغادره، تاركا أعز ما لديه: مكتبته. قلت لزياد خداش، الذي نشر مؤخرا نصا صار هو جزءا منه لأخفف من تهيبي:
- ابعث لأبي سري مسج، فقد وصلنا مبكرين.
- .........................................
وهناك، كان البيت كما تخيلته فعلا، دخل زياد خداش الى فنائه، فقد زاره من قبل، وهناك تلفت حولي لأرى كم تغير المشهد حول بيت خليل، المشهد متقارب لما كان من قبل.
حين انتبهت سيدة متدينة لنا ونحن ندخل البيت قرب مصف سيارتها، قلت لها، بأننا نزور بيت معلمنا خليل السكاكيني، تمنت ونحن أن يسود السلام هنا وأخبرتني أنها من أجل المراجعة في مستشفى قريب.
أنضم الى زياد المعلم والقاص وزوجتي الفنانة رانية العامودي الفنانة وسارة. تحدث زياد مع مالك البيت التسعيني الذي يعرف اللغة العربية، فهو عراقي كردي، أخبرنا أنه اشترى البيت 61 عاما. مع رفائيل ابنه الخمسيني، الذي يعرف العربية من خلال تعامله مع العمال الفلسطينيين، ولا شك أيضا من خلال أبيه.
كان خليل السكاكيني تربويا عميقا، وإنسانا يناهض العنصرية، تلك العنصرية التي سطت على بيته ووطنه، وعلى حداثة فلسطين التي أريد لها ألا تستمر. راؤول أو روفائيل الكهل هنا يقول لي أنه في المستقبل سيعيش الجميع في بلد واحدة وسيتحدثون لغة واحدة.
على باب البيت، أتخيل الأستاذ السكاكيني يستقبلنا كأن شيئا لم يكن، لندخل في حديث تروي وثقافي، مرة كأننا في الأربعينات مع مجايليه من الكتاب مثل إسعاف النشاشيبي، ومرة نكاد نشعر أنه ما زال هنا فنتحدث عن زمننا المعاصر. كان تنقلنا بين عقود السنوات على ما يقارب القرن تنقلا غريبا، لكن تزول الغرابة حين نتذكر معا تلك العقلية العظيمة التي ما زالت تسبقنا حتى الآن، خاصة في أفكاره التربوية من خلال ما طبقه في المدرسة الدستورية التي ضمت طلبة وعلمين من مختلف الطوائف، والتي عمل فيها على أنسنة التعليم والاهتمام بالشغف بعيدا عن نظام الترغيب والترهيب، والذي أدخل فيها تعليم الرياضة والفنون.
بيت خليل طابقين، لم نسع للطابق الثاني، بسبب عدم رغبة من حلوا فيه واحتلوه. قضينا وقتا قصيرا في الطابق الأول، والذي كان بيت ابنه سري، حيث تخيلت البيت العامر بهذا الرقي الحديث الذي كان سائدا هنا.
طلبت لسارة الماء، فلم تشربه فشربته أنا، مقدرا ما اعتمل داخلها من شعور الظلم، والسرقة التي تمت لبيت خليل وحي القطمون. لم أستغرب، فبعد الحرب الأخيرة على غزة، صارت سارة أكثر تشددا من شراء أي شيء عليه حروف عبرية "لغة هدولاك"..هكذا تنعتهم..
قرأن في وجه سارة بحثها عن البلدة القديمة في القدس، وخلال دقائق كنا وسارة أمام باب العامود، متأملة على الفور بهذا السور الكبير والباب الكبير، فلم تر لا جنود الاحتلال في معلباتهم، ولا حتى الواقفين يفتشون المارة طالبين بطاقات الهوية. أسر باب العمود والسور العظيم مشاعر سارة، فتحركت برشاقة فرحة، حيث هبطنا الدرج، داخلين البلدة القديمة.
في كل خطوات سارة أراني أعود الى طفولتي مقارنا بيني وبين سارة؛ فهي تدخل القدس بتصريح، وهي المغلقة علينا نحن جيران القدس في الجبال الغربية. القدس لسارة أمر معنوي، يتعانق فيه ما هو تاريخي وديني وثقافي ومعماري، في حين كانت عندي كطفل قروي مدينة عادية فيها أطعمة ومذاقات، حيث حتى الآن لا أنسى محل المخلل أول السوق. فيما بعد صارت المدينة عندي تعني كل شيء، مدينة جميله وتاريخ معا وهوية..طبعا ومذاقات وروائح. وربما ستصير لدى سارة القدس كل ذلك وأكثر.
سيصحبنا في البلدة القديمة الفنان المسرحي حسام أبو عيشة، الذي أضفى على التجوال حيوية وبهجة، سنفطر في أبو شكري الحمص الشهير حلو المذاق بكامل عدته، وهناك يتكرر لقاؤنا مع ابن أبو شكري الكاتب والصحفي...الذي يمازحه زياد خداش، وحسام أبو عيشة أكثر. يصحبنا أبو عيشة الى بيت الحاج أمين مفتي القدس، حيث حارة البيارق نسبة الى بيارق الجماعات الصوفية التي كانت تنطلق من هنا الى مقام النبي موسى لإحياء الموسم الديني والثقافي الشعبي المعروف باسمه. ثم إلى مكان "العشاء الأخير"، ومقام النبي داود، فكل وله مقامه، وتلك قصة تطول. نزور حارة الأرمن، وتبدي سارة تهيبها من محدودية النور هنا. يقول حسام أنه خلال الأسبوع يتجول مرتين أو ثلاث مرات، وأنه دوما يجد جديدا. ومن هنا ندخل ساحة المسجد الأقصى، لتبتهج سارة فرحا برؤية قبة الصخرة المذهبة، قائلة لي : "زي اللي في كتابنا".
نصلي العصر في مغارة المسجد، تلعب سارة وتتسلق الجوانب، فأتذكر طفولتي في رحلة مدرسية وعمري 8 سنوات. ثم لنهبط درجات مسجد القبة الى المسجد الأقصى..قلت لنفسي سيكون لزيارة سارة للقدس أثر كبير عليها.
نهبط درجات سوق القطانين، ونصعد عبر شارع الواد، وصولا لمستشفى الهوسبيس الذي تم إغلاقه من 36 عاما أو يزيد، هناك نشمئز من صراخ الجنود على أحد الشباب، وكيف راحوا يضربونه ويركلونه بقسوة، لم تمر غير دقيقة حتى رأيناه يدافع عن نفسه ويدفعهم عنه، مخترقا جمعهم كمشهد سينمائي منطلقا الى الأمام صعودا الى باب العامود حيث اختفى حيث أشفى نفوسنا، تاركنا في تعظيم له، وتاركا الجنود وجنود آخرين تم استدعاؤهم بسرعة البرق، في عارهم.
في نهاية النهار نسيت سارة سلوك جندي الحاجز حين لم يشأ السماح لها بالدخول ظانا أنها فوق ال 14 عاما، حين قالت دامعة خشية أن تنهار بالبكاء، وخشية علي وأنا أحاوره، بأن لها حق الدخول!
[email protected]