الكاتب:
دوسلدورف/ أحمد سليمان العمري
أتى رمضان كعادته بزمان يشبه كلّ عام، فيه الحروب والظلم والمآسي، وبتفاضله أيضا بما فيه من هداية وخير، وبهذا المعنى قال الله تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ».
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنّة وغلقت أبواب النار وصُفّدت الشياطين».
وورد في الأثر أنّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، إذا دخل شهر رمضان صلَّى صلاة المغرب ثمّ تشهَّد فخطب خطبة خفيفة ثمّ قال: "أمّا بعد، فإنّ هذا الشّهر شهر كتَبَ الله عليكم صيامه ولم يكتب عليكم قيامه، من استطاع منكم أن يقوم فإنّها من نوافل الخير التي قال الله تعالى، ومن لم يستطع منكم أن يقوم فلينم على فراشه، وليتّقِ منكم إنسان أن يقول: أصوم إن صام فلان وأقوم إن قام فلان، من صام منكم أو قام فليجعل ذلك لله تعالى، وأقِلُّوا اللَّغو في بيوت الله عزّ وجلّ، واعلَموا أنّ أحدكم في صلاة ما انتظر الصّلاة، ألا لا يتقدّمنّ الشّهر منكم أحد ثلاث مرّات، ألا ولا تصوموا حتى تروه إلّا أن يُغمّ عليكم، فإن يُغمّ عليكم العدد فعُدّوا ثلاثين ثمّ أفطروا، ألا ولا تُفطِروا حتى تروا الليلّ يغسِقُ على الظِّراب».
وأورد ابن الجوزي شعراً:
الصَّومُ جُنَّةُ أقوامٍ من النَّار والصَّوم حصنٌ لمَن يخشى من النَّار
والصَّوم سِتر لأهل الخير كلِّهمُ الخائفين مِن الأوزار والعارِ
فضائل الصّيام
في هذا الشهر الفضيل تهذيب النفوس والأرواح، ولأنّه مدعاة لتوطيد الأواصر بين الأهل والناس وبين الغني والفقير، فالإذعان لطاعة الله والإحساس بالجوع والعطش داع إلى الإحسان بالعطف تجاه الآخرين من ذي الخصاصة.
وما أحسن ما قال أمير الشعراء أحمد شوقي في الصّيام: «الصّوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع؛ لكلّ فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة؛ يستثير الشفقة، ويحضّ على الصدقة؛ يكسر الكبر، ويعلّم الصبر، ويسنُّ خلال البر، حتى إذا جاع من ألف الشبع، وحرم المترف أسباب المتع، عرف الحرمان كيف يقع، والجوع كيف ألمه إذا لذع».
ولعظم آثار الصّيام ورفعة منزلته بين العبادات لما فيه من تأديب للنفوس فإنّ الله تعالى تولَّى جزاءه بنفسه، وإذا تولَّى شيئا بنفسه دلّ على عظمه.
وفي ذلك قال سفيان بن عيينه: «هذا من أجود الأحاديث وأحكمها، إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدّي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلّا الصّوم، فيتحمّل الله عز وجل ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصّوم الجنة».
وقد دعا الرسول الحبيب إلى فضيلة بسط اليد بالعطاء في هذا الشهر الكريم أكثر من باقي شهور السنة، لإعتباره موسم إحسان وسخاء وطمأنينة، فينتظر الفقير الصّيام لقدومه بالعطايا وراحة البال، وقال ابن عباس: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان». كما ودعا إلى الزيادة بتلاوة القرآن والذكر والأعمال الصالحة بمطلقها.
ينبغي على الصّائم في هذا الشهر تغيير الأولوليات، لما بالشهر من مادّة روحانية تمنح طاقة وإيمان، فالروتين اليومي بين عمل وأسرة ومشاغل ومتطلبات تبعدنا عن خطاب الروح والتأمّل بالحياة والتفكّر بالممات والآخرة، وبإعتباره نهج تربوي واجتماعي وصحّي، قائم على التزام الجماعة والتحلّي بالصبر ومخالفة النفس متطلباتها، بالمقابل كرّم الله الصائمين وأعطاهم سُبحانه وتعالى من واسع عطائه وفضّلهم على غيرهم، وبيّن سبحانه أنّه يُثيب على الصّيام بغير تقدير، كما جاء في الحديث: «كلّ عمل ابن آدم يُضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وقال الله عزّ وجلّ: إلَّا الصّوم، فإنّه لي وأنا أَجزي به».
منهيات الصّيام
لقد نهى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم الصّائم عن الرفث والفسوق، ويُعرّف الرفث في الإسلام على ذلك الذي يطلبه الرجل من امرأته من جماع ومعاشرة، فهو التصريح بذكر الجماع والإعراب به. ويأتي مباحا ومحرما، كما في شهر رمضان في الصّيام.
أمّا الفسوق فيعرّف على أنَّه الخروج عن الشرع وطاعة الله تعالى بفعل الحرام وترك الواجب، وقد يكون الفسوق فسوقا أكبر بارتكاب الكبائر أو فسوقا أصغر بارتكاب الصغائر. وجدير بالقول ذكر الله تعالى الفسوق والفاسقين في القرآن الكريم في مواضع عديدة، فقد قال: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ».
والنهي كذلك عن الصّياح والخصام والشتم والمشاجرة. والمراد بالنهيِ عن ذلك هو تَأكيد حالة الصّوم، وإلَّا فالنهي في عموم الحياة والأشهر كلّها.
وتمام الصّيام بمنع الجوارح عن الآثام باجتناب الفحش وقول الزُّور، فإن تَكلَّم أو فعل بما لا يفسد الصّيام، فتشابه الجوارح الروح قولا وفعلا فيصحّ الصّيام والأجر بالقيام، كذلك يكون الصّوم المشروع، وليس المقصود مُجرَّد إمساك عن الطّعام والشّراب.
فمن مقاصد الصّوم العظمى هي تَحقيق التقوى وكسر جماح الشّهوة، وترويض النّفس، وفي هذا الحديث يحذّر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من اقتصار الصّيام على الامتناع عنِ الأكل والشّرب فحسب، فمن لا يترك الكذب والميل عن الحقّ وترك الباطل، فإنّ الله لا يريد منه أن يترك الطّعام والشّراب، وليس المعنى أن يؤمر الصّائم العاصي لأمر ما أن يترك صيامه، إنّما هو التحذير من الإستهانة بالمعاصي ونقصان الأجر في أكثر العبادات قربة من الله، فيترك المسلم الطعام والشراب ويمتنع عمّا حلّله له الله في غير هذا الشهر مع شدّة الصّيام والتعب لينقص ثوابه بالمعصية كبيرها أو صغيرها.
وقال الحبيب المصطفى: «مَن لم يَدَعْ قَولَ الزُّورِ، والعمَلَ به، والجهْلَ؛ فليس للهِ حاجةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَه وشَرابَه»، وفي حديث آخر: «رُبَّ صائمٍ ليس له مِن صِيامِه إلَّا الجُوعُ»؛ فالصّوم مكتمل الأركان هو كبح الجوارح والنفس عن الآثام وتطويع النفس على تركها لما بعد الشهر، حتى تصبح المآثم جريمة يجتنبها العبد خوفا وطوعا وإذعانا لأمر الله ونيل الراحة والطمأنينة، التي لا تحصل إلّا بسلامة الروح وصفاء السجية وحسن النية وطيب العمل بالرضية.
وللصائم فرحتان عظيمتان إحداهما في الدنيا والثانية في الآخرة؛ أمّا الأُولى فهي فرحة الإفطار، وكأنّها هدية الصائم الكبرى، وبها تَمام صومه وخاتمة عبادته، أمّا الثانية إذا لقى ربّه فرحا به، وهو الفوز العظيم باللّقاءِ وقبول الله تعالى صومه وحسن الجزاء.
الجهاد في رمضان
وهناك جانب آخر لا بدّ من ذكره في الشهر للعبرة والعظة، وهي تلك الحروب والفتوحات التي خاضها المسلمون في رمضان وسنامها غزوة بدر؛ حقّق المسلمون النصر العظيم وهم قلة صائمون أمام كثرة منعّمون.
ومعارك أخرى في رمضان انتصر بها المسلمون كفتح مكّة وعين جالوت وحطين والقادسية، ومعارك كثيرة يخوضها الشعب الفلسطيني الباسل أمام الإحتلال في كلّ رمضان، كما رمضان هذا العام أيضا ونحن ننتصفه؛ ودّعنا أوّله ونستقبل أواخره بالحجارة والصدور العارية؛ تقف مدجّجة بالعزيمة والإيمان أمام جيش جرّار مسلّح بأحدث آلة حرب وخوف؛ يحفّه الرعب والانهزام.
الجهاد في سبيل الله فيه عزّة الإسلام، كما أنّه أفضل الأعمال وأجلّها، وما وصل المسلمون إليه من ذلَّ إلّا عندما تركوا الجهاد، وركنوا إلى الدبلوماسية التطبيعية من حجم الضعف الذي يعتريهم، فتكالبت عليهم الأمم.
والتذكير بالجهاد في هذا الشهر المبارك هو نظرة للوراء بماض وضّاح، علّه يرشدنا للنهج الصحيح لنستطيع الخروج من مستنقع التطبيع أو الوجوم والخنوع، اعتادته الأنظمة العربية الإسلامية؛ قذف الله في ضمائرهم الوهن ونـزع المهابة من قلوب أعداء الأمّة.
إنّ فضائل رمضان لا تحصى، إلّا أنّ الذود عن العرض والأرض في هذا الشهر الفضيل هو أقرب الأعمال إلى الله تعالى، وخاصّة بعد اقتحام المسجد الأقصى والصّمت ودور المتفرّج المعيب تحترفه الدول أمام القتل والتنكيل وتدنيس القبلة الأولى.
فليكن الماضي الإسلامي والعربي المشرق عبرة نستشفّ منها الفائدة لمستقبل يمنحنا القوة للوقوف أمام الأمم النّدّ بالنّدّ، بدلا من دور التابع الذي آل إلى نهج دولة تتوارثه الأنظمة بينها.
جعل الله لنا هذا الشهر الكريم مع صيامه وقيامه شهر عزة وغلبة، وكلّ عام وأنتم والأمّة بخير.