الكاتب: حسام ابو النصر
استفاقت غزة على اكتشاف أثري بالغ الأهمية له ما بعده، وذلك في منطقة القرارة التابعة لمحافظة خان يونس، على تبة الشيخ حمودة وهي أعلى تلة حيث ترتفع ٨٦ م عن سطح البحر وقد يكون لذلك سميت بتبة 86، وتشمل المنطقة على تل قطيف وسوق مازن الاثري، الذي جاء ضمن شروحات أرضيات مأدبا الفسيسفائية في الأردن، مما عزز دلالتها التاريخية، وأهميتها الرومانية والبيزنطية، وتقع كل المنطقة ضمن جغرافية طريق حورس القديمة بين مصر وفلسطين، وقد دلت المكتشفات الاثرية على ذلك خاصة في منطقة أبو سليم (وسط القطاع)، لذلك هذا الاكتشاف له دلالتين هامتين، الدلالة الأولى وطنياً، للطارئون على كتابة التاريخ أو بعض الاثريين الذين ضُلِلوا بأن فلسطين ليس لها إمتداد كنعاني أو أن الوجود الكنعاني قد يكون طارئاً كمصطلح، وان شعب بلست يشكل لبنة الفلسطينيين الأوائل فــــــــيرد هذا المكتشف على ذلك ويعزز مفهوم فلسطين الكنعانية كدلالة على تلك الحقبة ( وقد وضحت ذلك من خلال ترأسي مؤتمر فلسطين الكنعانية عام 2019) التي أسست لفلسطين الحضرية بمدنها ومعابدها وبيوتها ونقوشها لتشكل الحضارة الفلسطينية القديمة، وهذا ما يحاول بعد المستشرقين الغربيين إلى جانب بعض كُتاب التاريخ العرب والفلسطينيين للأسف أن يتبنوه تساوقاً مع الرؤية الغربية، وقد ظهر ذلك جلياً في بعض الكتب آخرها كتاب فلسطين 4000 آلاف عام في التاريخ لمصالحة، وغيرها من المؤلفات، وما يبشر به أيضاً (تومس تامسون) وغيره، الدلالة الثانية هي الأوهام الاسرائيلية التي ما زالت تتغنى بتاريخها القديم الملفق، ووجودها في فلسطين، سواءاً اثنياً وعرقياً وربط ذلك دينياً، وإذا تناولناه عرقياً، فإن المكتشف يؤكد قدم وجود الكنعانيين ويرسخ ذلك ما يتماشى مع مراسلات تل العمارنة (1388 ق.م) التي نقلت إلى الكرنك وفيها مراسلات هامة بين ملوك مصر وكنعان، فيما دينياً (رغم ان الدين غير مرتبط بمنطقة أو عرق فإن عبادة الوثن الذي سبقت الأديان السماوية ومنها آلهة كنعان (بعل، وايل، وعشتار، وداجون، وغيرها)، التي كانوا يعبدونها، صنفت(عناة) ألهة الصيد والحرب، رغم أن ما ذكر عند إكتشافها أنها الهة الحب والجمال وهو ماكانت توصف به عشتارت، وقد كانت عناة ضمن الآلهة التي تعبد في فلسطين قديماً خاصة في العصر البرونزي(3300ق.م حتى 1200 ق.م) ويدين بها شعب المنطقة الأصيل، وسبق ذلك الديانات والمعتقدات بمئات السنين، إذا اعتبرنا أن الكشف الأثري يعود لـــــــ (2500سنة ق.م)،المصنوع من الحجر الجيري ولا يزيد عن 22 سم، وأعتقد أن له بقية لم يعثر عليها، وهو الجسم المفصول عن الرأس، فغالباً التماثيل الصغيرة تكون كاملة، وتدل ملامحه على الملامح الكنعانية القديمة التي تختلف عرقاً وشكلاً عن المصريين، وظهر ذلك جلياً، من خلال المكتشفات السابقة بين شعبين ينتميان لقارتين رغم الحدود للبرية القريبة بينهم، مثلما إختلفت ملامح الهكسوس عن الفراعنة من خلال المكتشفات المصرية وقد يكون الهكسوس من ادخلوا عبادة عناة إلى مصر معهم (1750ق.م)، واذا كان التمثال المكتشف يعود لــ 4500 عام، فالأرجح أنه واكب ظهوره فترة الأسرة المصرية الرابعة (2613 ق.م حتى 2493 ق.م) عصر بناة الأهرام، وقد ظهر تمثال سابق لعناة كان يقترن بتاج وأفعى على الرأس، دلالة على القوة، وهذا ما عززه الاكتشاف الجديد عن شكل عناة المتداول في ذلك الوقت، وهي كانت تنسب أخت وزوجة لبعل، ومن ألقابها العذراء، الرحيمة، الأرملة (بعد موت بعل)، والمنتصرة أو السعيدة وهو لقب حازت عليه في أرض كنعان ومصر، وهذا كله يحيلنا إلى التلفيق الاسرائيلي بأن دولة داود وسليمان وحتى (يهودا والسامرة) التي ظهرت حسب اعتقادهم في الألف الأول قبل الميلاد فقد سبقها هذا التمثال بألف وخمسة عام، فيما إذا كان دولتهم القديمة قد نشأت في أطراف مدينة القدس (وليس القدس الحالية)، حتى جبال جرزيم، حسب ما يدعون فما علاقة وجودهم في حيفا، وعكا ويافا، والساحل! كل هذا يؤكد مشروعهم السياسي الاحتلالي الامبريالي في محاولة لاسقاط الدين على هذا المشروع دون أي دليل أثري يؤكد صحة ما يدعون خلال ٧٠ عام من البحث، وهذا ما أكده فلنشكاين، حتى القبائل الاثنية والعرقية التي تهودت ثبت انتماءها لشعوب المنطقة، وان معتقداتهم اختلفت مع ما تدعيه الاسرائيليات اليوم، والسامريين الفلسطينيين شاهدين على ذلك وهم وأنهم الأقدم كعقيدة حيث يعتبرون أن جدهم نوح وابراهيم، وأن الوصايا العشر هي اللبنة الأولى وأن ما ورثوه من مخطوطات هي الأصح والأقدم ولا تتماشي مع السياسية الاسرائيلية الاحلالية التي تريد صبغة ذلك بالرؤية التوراتية الدينية، مع التأكيد انهم لم يهودو جميعاً، كما لم يحدث ذلك في مصر، رغم ان لا فرضية تشير إلى ضرورة اعتناق جميع الفلسطينيين اليهودية ثم المسيحية فهناك قبائل انتقلت من الوثنية إلى الإسلام دون هذا التسلسل العقائدي وهكذا حدث في شبه الجزيرة العربية، في حين دانت أغلب فلسطين بالمسيحية عند ظهور سيدنا المسيح كما حدث في مصر القبطية التي لم تهود أيضاً، وهنا ذكرو كجماعات (عبرانيين، بني اسرائيل، وغيرها) وعموماً لا ينتمون أيضاً ليهود اليوم الذين لا ينتمون أصلا لعرق واحد، وبهذا الاكتشاف تثبت غزة من جديدة أنها ليست فقط محور الحاضر بل هي أيضاً كنز الماضي وسرداب أسراره، وهذه المكتشفات تسهم في تصحيح وإعادة كتابة التاريخ، وبالطبع مازالت هناك خبايا كثيرة لم تكتشف بعد، مع زيادة الخطر على مثل هذه المكتشفات الاثرية وعدم القدرة على حمايتها خاصة في ظل استمرار الحروب على القطاع، واستمرار الانقسام، والذي شاع نوع من عدم الثقة على القدرة على حماية الآثار هناك وكان تمثال ابولو نموذجاً واثار اختفاءه من جديد الكثير من اللغط، لكن بالمجمل هناك الكثير من المكتشفات الاثرية تسعى السلطات في غزة على حمايتها وتشرف على ترميمها من خلال مشاريع خارجية خصصت لذلك، ورغم وجود أكثر من ثلاث متاحف خاصة في غزة إلا أنه لا يوجد متحف وطني يستطيع أن يضم ويحفظ جميع القطع المكتشفة لكل العصور، وامكانية ذلك بعيدة في ظل الوضع الراهن، وأشير هنا إلى ما قاله مؤرخ غزة الراحل الكبير عصام سيسالم في احدى ندواته، ان لم نستطع حماية آثارنا الأفضل أن نتركها مدفونة في الأرض فهي كفيلة بحمايتها.